(مياه زمزم – الإنجاز والإعجاز)
د. محمد بن عبدالله السلومي
باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
واجهت المملكة العربية السعودية بعض الإثارة الإعلامية الأجنبية حول تلوث مياه زمزم وذلك بصورة خاصة في شهر جمادى الآخر عام 1432هـ الموافق شهر مايو 2011م، أثناء رئاسة الشيخ صالح الحصين –رحمه الله- لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وكان تحدياً جدياً بحكم الدوافع ووسائل البحث والنتائج والمآلات.
وكان النقاش مطروحاً بالصحافة الوطنية حسب صحيفة الرياض بتاريخ 20/7/2011م، وكما في صحيفة المدينة بتاريخ 10/5/2011م بعد أن نشر موقع البي بي سي البريطاني تقريراً خطيراً بتاريخ 5 مايو 2011م أشار فيه بأن فحوصات مخبرية أظهرت بأن مياه زمزم ملوثة! وتباع في بريطانيا! وهو الأمر الذي دعا الجهات المعنية بالمملكة العربية السعودية إلى أن تتعامل مع هذا الموضوع بجدية وحزم لمعرفة طبيعة هذه الدعاوى، لا سيما أن تعبئة ونقل مياه زمزم كانت تتم بطرق بدائية، وربما كان بعض المنقول لدول العالم مع المعتمرين والحجاج بالفعل ملوثاً نتيجة التعبئة البدائية، وربما كان بيع مياه غير زمزم بالطرقات وغيرها على أنها مياه زمزم! حيث تم ضبط هذه الحالات وما شابهها.
وقد كان التكليف الرسمي لرئيس شؤون الحرم المكي والمدني آنذاك الشيخ صالح الحصين -رحمه الله- الذي وضع لإنجاز هذا العمل أهدافاً ثلاثة وهي الإنجازات التي حدثني عنها شخصياً وأمكن الاطلاع عليها حول مياه زمزم:
- ·توفير الحماية المعنوية لمياه زمزم وتفنيد أي شبهة أو تشكيك حول هذه المياه المباركة، بصورة علمية موضوعية مقنعة.
- ·التأكد المنهجي من وجود الحماية المادية القصوى لمياه زمزم من أي ملوثات أو مختلطات قد تصل اليه من أي مصدر أو سبب كان.
- ·تسهيل وصول ماء زمزم للمستهلكين بصورة آمنة ولائقة بزمزم وبالإنسان.
وللتوضيح في تفاصيل هذا الموضوع كانت الأهداف الواضحة المباركة تتفق مع الإنجازات التالية:
أولاً: الحماية المعنوية لمياه زمزم:
حرص الشيخ -رغم قناعته الإيمانية بسلامة زمزم- على استشارة المتخصصين في شؤون المياه، وطَرَحَ بعض التساؤلات عليهم وطَلَبَ بحث الأمر علمياً وبصورة منهجية وموضوعية ومخبرية لإثبات وضع سلامة وجودة مياه زمزم ذاتها، وإثبات ما إذا كانت هذه المياه خالية من التلوث الكيميائي والبكتيري، فكان تواصله مع كل من وزارة المياه والكهرباء ومركز مختبرات الجودة فيها، كما قام بطلب تنفيذ أبحاث علمية لذات الغرض من (مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية) وكانت متابعته الشخصية حول هذه الاختبارات والأبحاث مع هذه الجهات، وكانت توجيهاته بضرورة الإجابة عن تلك التساؤلات بصورةٍ علمية وموضوعية متجردة.
فتركزت الجهود للعمل مباشرة، ولكن دون استعجال النتائج استعجالاً يُخل بمصداقيتها أو دقتها، وهو ما تطلب جمع عينات من ماء زمزم على مدى سنة كاملة، وإخضاعها للفحوصات المتكررة، فخلصت النتائج العلمية والمختبرية الى التالي:
- ·أن مياه زمزم خالية تماماً وبصورة قطعية من التلوث الكيميائي والبكتيري، بالرغم من أن نبع زمزم يُعدُّ أخفض نقطة في أرض الحرم.
- ·تمخضت هذه التجارب والفحوصات المخبرية عن الكشف عن سبب التلوثات التي
وجدت في عبوات بعض المعتمرين والحجاج، ومعرفة أهم مكامن الخلل في هذا التلوث، وأنها كانت حصرياً بسبب (التعبئات اليدوية التقليدية) الخاطئة لهذه المياه المباركة.
ولإزاله تلك الشكوك عملياً، بعد إزالتها علمياً، تم إعداد عرض مرئي عن مياه زمزم يوضح سلامة هذه المياه من الناحية العلمية والفنية وتأكيد الجودة العالية لهذه المياه المباركة، لا سيما بعد إتمام عملية الإشراف على التعبئة والتغليف، وكان التواصل واللقاء مع بعض سفراء الدول الأوروبية وأمريكا وأستراليا واليابان وسفراء الدول التي صدر منها التشكيك بشكل خاص، وكذلك الدول التي ترتبط مع المملكة بعلاقة تعاون في بعض المجالات وتوضيح هذه الحقائق لهم.
ولتعزيز الإجابة والردود العلمية لجميع الجهات ذات العلاقة، بل وجهات التشكيك، فقد تم نشر تلك المعلومات والنتائج وإبرازها للعالم من خلال الأخبار والقنوات الفضائية، وكان لهذه الجهود أثرها المبارك حيث انتهت تلك الشبهات المثارة.
ثانياً: الحماية المادية لمياه زمزم:
ومن حرص الشيخ صالح الحصين رحمه الله على سلامة مياه زمزم وقد أسندت إليه هذه المهمة ومتابعتها كان سؤاله للمتخصصين: هل تختلط مياه زمزم بمياه أقل ملوحة من مياه النبع الأساس؟ ولإجابة الفريق العلمي على هذا التساؤل بصورة علمية وبتوجيه من الشيخ تم النزول في بئر زمزم والوصول إلى تلك الينابيع (الينابيع الثلاثة لزمزم) وسحب عينات من كل مصدر منها داخل البئر، عينات من كل مصدر على حدة، وأخذ عينة أخرى من مخلوط تلك المصادر التي تمثل مجتمعة مياه زمزم، وتم الكشف علمياً عن (البصمة الخاصة) بمياه زمزم واتضح من خلالها أنها مياه ذات خصائص معينة لا يماثلها مياه أخرى، وبالتالي لا يمكن تزويرها، وتم يقيناً التأكد التام بأن ليس هناك مياهٌ أخرى تختلط مع تلك المياه المباركة لتفرد هذه المياه ببصمتها الخاصة المميزة لها عن غيرها.
ولم تنتهِ تساؤلات الشيخ عند الحصول على هذه النتائج، حيث إن واقع التجربة الشخصية لشارب ماء زمزم تُشعره بقلة الملوحة فيه عن سنوات ماضية، وهو أمر يحتاج إلى تفسير موضوعي منعاً لعدم تناقض الأدلة الحسية والمخبرية، ولذا كان تساؤله للفريق العلمي: لماذا انخفضت (حسياً) نسبة الأملاح إلى مستوى أقل مما كان عليه سابقاً؟ وتمت الإجابة العلمية من دراسة بحثية للخروج بنتيجة مفادها: أن هذا مما تحكمه العلاقة العكسية التي تربط بين كمية المياه المسحوبة المتزايدة وبين انخفاض نسبة الأملاح، والسنوات الأخيرة كما هو مشاهد كان الضخ من البئر بكميات قياسية وغير معهودة سابقاً وذلك لخدمة أكبر قدر من المعتمرين والحجاج والزوار.
فالأبحاث العلمية الدقيقة والمطولة أثبتت وأكدت سلامة مياه زمزم ونقاءَها من مخالطة غيرها، وأثبتت في المقابل أن التلوث الذي وجد في بعض العينات التي اصطحبها بعض الحجاج والمعتمرين للخارج كان نتيجة حصرية للتعبئة اليدوية التقليدية الخاطئة وغير النظيفة لهذه المياه المباركة، ولمعالجة هذا الأمر ولتحقيق السلامة للجميع تم اقتراح معالجة هذه الإشكالية بقيام الحكومة بمهمة التعبئة لمياه زمزم بصورة آلية ونظيفة، وتم بحمد الله قيام وافتتاح (مشروع خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لسقيا زمزم) في 24 رمضان عام 1431هـ، وهو ما حسم الأمر وأصبحت مياه زمزم معبأة ومغلفة بطرق صحيحة وسليمة وقابلةً لاصطحابها بأمان وضمان من التلوث مع المعتمرين والحجاج خارج السعودية وداخلها.
وكان من حرص الشيخ صالح –رحمه الله- أنه كثيراً ما يُوصي باستمرار متابعة تلك الأبحاث عن مياه زمزم مع (مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية) وبمتابعة جودة التعبئة ونقاوة مياه زمزم، لضمان السلامة ولتدارك أي عرض سلبي في حينه.
ثالثاً: تسهيل وصول ماء زمزم للمستهلكين بصورة لائقة بزمزم وبالإنسان:
كان مشروع خادم الحرمين لسقيا زمزم مشروعاً نوعياً لحماية تعبئة ماء زمزم من التلوث، كما كان أيضا مشروعاً لتسهيل وصول زمزم للمستهلكين وتيسيراً لنقلهم هذه المياه المباركة لبلدانهم بصورة آمنة ولائقة.
إضافة لذلك فقد أوصى -رحمه الله- بنقل عبوات زمزم من مكة إلى المدينة ليتم توزيعها على المواطنين والمقيمين والزائرين على حدٍّ سواء في المدينة النبوية، وفي الحرم المدني بصورة خاصة.
فرحم الله الشيخ صالح العالم العامل، والزاهد المتواضع، وقد ذكَّر هذا الإنجاز رجال الإدارة بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ) [صحيح الجامع للألباني:1880].
وأما عن جانب الإعجاز لمياه زمزم فإن نتائج هذا الإنجاز البحثي العلمي المبارك تُعدُّ من الإعجاز بالحفظ الرباني للمياه، إضافةً إلى ما ورد في الأحاديث النبوية مما يؤكد جوانب أخرى كقوله صلى الله عليه وسلم (ماءُ زمزمَ لما شُرِب له) [سنن ابن ماجه:3062] و(خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ، فيه طَعَامٌ مِنَ الطُّعْمِ، وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ) [الأوسط للطبراني:4/179].
وكان من أبرز من عَرَضَ تفاصيل هذه الجهود المهندس عبدالله بن عبدالرحمن المحيذيف مدير عام المختبرات والجودة بوزارة البيئة والمياه والزراعة سابقاً، وذلك في محاضرات عدة في أماكن متعددة داخل السعودية وخارجها، وقد تم نشر بعضها في الفضاء الرقمي، كما أنه كان من أبرز المهندسين المباشرين لهذا العمل.
وفي بعض هذه المحاضرات خارج السعودية ما يُفيد إسلام علماء ورجال دين بعد رؤيتهم لجوانب الإعجاز في زمزم! ومن أبرز هذه المحاضرات (جوانب الإعجاز العلمي في ماء زمزم) [مركز دراسات الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية]،ومحاضرة (من الإعجاز العلمي بماء زمزم) [ندوة الشيخ عبد الله العقيل رحمه الله].
وفي الختام وهو مهم هنا لا سيما بعد تحقق الإنجاز بحمدالله، واتضاح بعض الجوانب من الإعجاز، فإن هذا العمل المبارك يكتمل ويبلغ تمامه حينما تقوم رئاسة شؤون الحرم المكي مع الجهات ذات العلاقة بتعميم ((بصمة ماء زمزم العلمية)) على السفارات الأجنبية في السعودية لإخلاء المسؤولية عن ما يتم بيعه مما يُقال عنه (مياه زمزم) في بعض الدول، وممكن أن تكون هذه البصمة على جميع العبوات الرسمية.
والمهم أن لا تتكرر هذه المزاعم على مياه زمزم، فوجود البصمة أو هذه المعايير من خلال الباركود الخاص بزمزم على عبواته كفيلٌ -بإذن الله- بقطع الطريق على تجار زمزم والتشويش على نقائه، وهو ما يمكن أن يُوصف بالملكية الفكرية للمياه، كما يمكن للجهة المعنية بزمزم عمل برنامج (تطبيق عام) لتداوله بصورةٍ عامة في أجهزة التلفونات النقالة، نظراً إلى أنني لاحظت كما لاحظ غيري من خلال السفر في بعض الدول بأن مياه زمزم لا زالت تباع وبعبوات متنوعة متعددة تبعث على الريبة والشك، والله خير حافظ لدينه وشعائره.
صحيفة مكة، العدد 2832، بتاريخ 26 رجب 1443هـ الموافق (27 فبراير 2022م)، الرابط التالي:
لا توجد تعليقات