Skip to main content

قراءة في كتب هوفمان ورؤيته حول أبرز قيم الحضارة الغربية (2/2)

1 ربيع أ ول 1443 هـ 
7 أكتوبر2021م

(تصفح نسخة PDF العادية)
(تصفح نسخة PDF التلفونية)

الحديث في هذا الموضوع ليس قراءة نقدية لقيم الغرب وحضارته المادية فهذا موضوع آخر كبير، لكنه عرض لرؤية المفكر الألماني هوفمان رجل السياسة والفكر حول أبرز القيم التي تتم حولها بعض المزايدات([1]) بين الغرب والشرق، وهذه القراءة لا تعدو أن تكون نتائج في قراءة أبرز كُتُبه ومقالاته،([2]) بعيداً عن التحليل أو الردود والاستدراك سوى ما ذكره هوفمان نفسه عن منافسة الإسلام بعقيدته وتشريعاته حول هذه القيم بمقارنات تستوجب النظر والتأمل. ومن أبرز هذه القيم ما يتعلق بالحقوق عامة والديمقراطية بصورةٍ خاصة.

 وهوفمان بمنهجيته النقدية لحضارة الغرب غالباً ما يضيف بعض المقارنات التي ربما أنه يَعدُّها وسيلة مثلى لمعرفة أكثر عن الحقيقة بين حضارة الغرب المادية المعاصرة وما فيها من الشرك وتقديس العقل، وبين ما يمتلكه الإسلام من عقيدة التوحيد وما فيه من علاقة مُثلى بين المادة والروح وبين الإيمان والعقل.

وليس الموضوع هنا عن هذه الفروقات الكبيرة بقدر ما هو عن قضايا محدَّدة هي موضع مزايدات الغرب المتعصب بسبب أن الإسلام والغرب حضارتان متنافستان في معركة البقاء والسيادة وتقديم الأفضل للبشرية، بل في أصول وفروع فكرية. فالغرب المتعصب -وليس المتسامح- يتطاول بكبرياء واستعلاء مُشَاهد على عموم المجتمعات العالمية، وعلى المسلمين خاصة بواقعهم المتخلف الذي لا يمثل حضارة الإسلام وتشريعاته. بل إن الغرب يَضَع عموم المسلمين في موقف دفاعي منهزم حول المواضيع الثلاثة المتكررة بالطرح، وهي: (موضوع حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق المرأة بشكل خاص، وموضوع الديمقراطية). والغرب بهذه المزايدات على شيء كثير من الصواب مقارنةً بواقع معظم دول العرب والمسلمين، لكنه غير مصيب بحق الإسلام وتشريعاته الحقوقية حول هذه القضايا. وقد أَكثَرَ المفكر الألماني مراد هوفمان في طرح هذه الموضوعات في مجموعة من كتبه، بل إنه خصص ورقة علمية حول هذه القيم وما فيها من مزايدات، كما أنه عمل بالمقارنات مع تشريعات الإسلام حسب منهجيته حول هذه القيم الثلاث في الدين الإسلامي:([3])        

1- حقوق الإنسان: تنتاب كثيراً من المسلمين الدهشةُ والذهول أثناء أي حوار حول حقوق الإنسان، بأن شركاءهم الغربيين في الحوار يعتقدون بشكل جدي أنهم هم من أَوجَد حقوق الإنسان! أو أن لهم حق الملكية الفكرية الذي لا نزاع فيه! ثم بأن حقوق الإنسان لا تُحترم إلا في الغرب، ولا تحترم قط في العالم الإسلامي!

ويرى هوفمان في أكثر من واحد من أبحاثه([4]) أن على المعنيين بالحوارات أن يُوجِّهوا للشركاء من الغربيين في أي حوار الأسئلة التالية حول الانتهاكات في هذا العصر تحديداً!: هل ثِمتَ خروقات لحقوق الإنسان كمَّاً ونوعاً أسوأ من الخرق الجماعي الرسمي لحقوق الإنسان في الحربين العالميتين في أوروبا، حيث استعملت الأسلحة الكيماوية والذرية! ناهيك عن الإرهاب الستاليني! وعمليات الإبادة الآلية لليهود والمعاقين عقلياً والمثليين والغجر وأصحاب الآراء السياسية الأخرى في الهولوكوست؟! ثم ماذا بعد وجود هيئة الأمم المتحدة وصدور الإعلان العالمي عن ميثاق حقوق الإنسان المعاصر! وتلازم هذا مع حالات التمييز العنصري وعمليات الإبادة العرقية في البوسنة وكوسوفو في عصر الحضارة؟! وهل قامت أي من هذه الجرائم والبشاعات خارج إطار المدنية الغربية ودولها وحضارتها؟ أو هل مثل هذه الانتهاكات الكبرى تمَّت بهذا الحجم من العدوانية وعدم التسامح في أي بلد في المنطقة الإسلامية؟

بالرغم من أن الإجابة الصادقة عن هذه الأسئلة يجب أن تكون بالنفي، يلاحظ المرء بأن الشركاء الغربيين في الحوار يتبجحون تكابراً – بل ويُعاقِبون في حال تطلب الأمر ذلك بقطع مساعدات التنمية – ويُطالِبون العالم بالأخذ بمفهومهم الخاص (الأوروبي الأمريكي) لحقوق الإنسان. وهكذا تم ويتم استغلال مسألة حقوق الإنسان وتسييسها كهراوة للتهديد مرفوعة للضغط على الآخرين أحياناً، وابتزازهم في أحيان أخرى!

ويؤكد هوفمان ويُكرِّر أن الغرب سواءً كان الأمر يتعلق بالاتحاد السوفيتي المندثر، أو في الولايات المتحدة بات واضحاً في كل الأحوال بأن قائمة حقوق الإنسان لم تكن في غالب الأحيان أكثر من قطعة ورق. وما على المرء سوى سؤال السود في أمريكا أو الهنود الحمر الأمريكيين لمعرفة الأمر! وعلى كل الأحوال فلا جدل في أن البشرية لم تتمكن حتى هذه اللحظة قط من إيجاد “نظام قانون طبيعي” ناتج فقط عن العمل الفكري المجرد صالحٍ للجميع، ومعترفٍ به من قبل الجميع، والكل يشعر بأنه مُلتزم به.([5])

وهوفمان يرى أن الحقيقة الأكثر وضوحاً عن هذه الحقوق في معظم البلدان الغربية أنها غير مَصُونَة بالغرب ذاته بشكل صحيح. فهي في الغالب أوراق على أوراق تتكدس. وكفى بها أنها جهد بشري غائب عنها الوحي الإلهي، ثم كفى بها عيباً وقدحاً أن كل مواثيق حقوق الإنسان لم تتطرق لله الخالق، الذي مَنح هذه الحقوق وشرَّع لها بعدالة سماوية! وكفى بها أن الفهم الصحيح للإسلام عند أي مسلم مؤمن أو منصف غير مسلم يعترف بأن الإسلام قائم في الأساس على أنه نظام متكامل وشامل لكل حقوق الإنسان في الحياة!

وأقول إن عدم التطبيق عند المسلمين أو دولهم وحكوماتهم في عصورهم المتأخرة لا يعني مطلقاً أن الإسلام مُتَّهم بالقصور، بقدر ما هو قصور المسلمين وإخفاقهم بعدم صياغة قانونية للحقوق عامة. ومن أبرزها وأهمها توضيح حقوق الله على عباده التي فيها ضمانات السماحة وعدم العدوانية على الآخرين من البشر. وفيها الضوابط الغيبية للسلوك من تقوى الله وطلب الثواب والخوف من العقاب، وكذلك إبراز ضمانات تحقيق حقوق الإنسان والمرأة، وحقوق أهل الذمة والأقليات، وحقوق الحريات، وحق الحياة والرزق، وحقوق الفقراء، والحقوق الزوجية وذوي الأرحام، وغيرها من الحقوق. والقائمة تطول ولا تنتهي منذ أكثر من 1400 عام عن النصوص الحقوقية في القرآن والسنة!

ولا مجال للمزايدة مع الإسلام في ميادين التشريعات وما يمتلكه الإسلام من رصيد حقوقي لا يقارن مع غيره بشموله وكماله وما فيه من جوانب الثواب والعقاب الدنيوي والأخروي. ولهذا فإن الاستراتيجية المثلى للمسلمين تتطلب العمل والبحث الجاد في استنباط وتنظيم قيم حقوق الإنسان، ضمن المنهج الإسلامي كأنظمة وتشريعات تُقدَّم للبشرية، وذلك من القرآن والسنة.   

2– حقوق المرأة: عن هذا الموضوع كتب هوفمان الكثير، ومما قال: «إن الأسرة في الغرب منهارة، وإن هناك مؤسسة الخدم والخليلات، وإن معدل الطلاق عالٍ، وإن هناك استغلالاً تجارياً للمرأة جنسياً. نعم عند دخول الألف الثالثة وُلد في السويد 55% من الأطفال خارج نطاق الزوجية، و40% في فرنسا، و38% في بريطانيا العظمى، مع كل ما ينجم عن ذلك من شقاء وبؤس للأم والطفل. نعم! العنف ضد المرأة في الزيجات الغربية، إذْ وثَّق هذه الحقيقة فيلم إسباني حديث بالإحصائيات المحيطة (Te doy mis ojos “أمنحك عيني”، نوفمبر 2003م). نعم، لم تصل المرأة في الغرب كله إلى المساواة مع الرجل (بالمقارنة مع القانون) في ميادين السياسة والأعمال والعلوم. ولكن ينبغي ألا يتخذ المسلمون ذلك مثلاً يُحتذى ويتذرعون به، بل ينبغي أي يُرى الإسلام بأنه الدين الوحيد الذي يُعزِّز طاقات المرأة وإمكاناتها».([6])

  ولهذا فإن شعار الحقوق للمرأة لدى الحضارة الغربية يُبرِ ز تساؤلات عديدة تطرحها الساحة الثقافية حتى عند عقلاء الغرب. ومنها هل يُعدُّ جسد المرأة سلعة تُباع وتُشترى في الدعاية والإعلان؟ وهل هذا حقٌّ من حقوقها مثلاً؟ وهل هذا مما يُعدُّ حقوقاً مُثلى وكرامة للمرأة؟ وهل عمل المرأة بالصورة المُبتذلة المعمول بها في الغرب تكريم للمرأة؟ أم إهانة لها؟ وهل هذا العمل الوظيفي خارج المنزل مما يُحقق للمرأة حقوقها الأساسية وكرامتها في الزواج والإنجاب المشروع؟ ثم أليس هذا الحق في العمل يأتي على حساب حق أكبر للمرأة والطفل في الكرامة والتربية والرعاية والعناية؟ تساؤلات عديدة وكثيرة ومتنوعة مفادها ونتيجتها المنطقية بمجملها القول: متى؟ وكيف يمكن تأسيس منظمات وجمعيات إسلامية بالغرب وفي داخل البلاد العربية والإسلامية تكون معنية بتنظيم وتقنين وإعلان التشريعات والمبادئ والقيم الإسلامية المعنية بحقوق المرأة وكرامتها لإنقاذها من الانتهاكات؟ بل وأكثر من هذا، حيث أهمية تصدير مفاهيم هذه الحقوق والتسويق لها والنداء بالصوت العالي بغرض تحرير المرأة الغربية من صور الاستغلال والاحتقار والإهانة التي لحقت بها من قِيم الحضارة الغربية المادية، ومن انحراف البوصلة تجاه حقوق المرأة الحقيقية وكرامتها!

ومن مفاهيم حقوق المرأة التي تستوجب التصدير للغرب ثقافة وجوب قوامة الرجل ومسؤوليته المالية بالنفقة والرعاية، حمايةً للمرأة وتحقيقاً لكرامتها بنتاً وزوجةً وأمَّاً وجدَّة وأختاً. 

ومما يُعزِّز ويؤكد ما كتبه هوفمان حول حضارة الغرب وما فيها من انتهاك لحقوق المرأة ما كَتَبَته الباحثة والمؤرخة الألمانية ميريام جيبهارت Miriam Gebhardt عن بعض التاريخ الأسود المعاصر للغرب في تعاطيه مع المرأة وحقوقها، وذلك بقولها: «بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية اغتصب (الحلفاء) حوالي مليوني امرأة ألمانية، وتناثرت جثث كثير منهنّ في الشوارع! ولم يتردد جنود الحلفاء المنتصرين لحظة واحدة في إعدام أي امرأة كانت ترفض الرضوخ لمطالبهم! وقبلت ألمانيا حتى منتصف الخمسينيات بتسجيل (37) ألف طفل باسم أمهاتهم! كما أن الروسَ اغتصبوا (15) ألف امرأة! والأمريكانَ (190) ألفاً! والبريطانيين (45) ألفاً! والفرنسيين (50) ألفاً! والبلجيكيين (10) ألاف امرأة! وما فعله الصرب والكروات في نساء البوسنة والهرسك من حالات الاغتصاب الجماعي في تسعينيات القرن العشرين على مرأى ومسمع من كل العالم الذي يسمى متحضراً [شاهد معاصر] ديمقراطياً!».([7])      

والتساؤلات التي تطرحها قضية المزايدات الغربية حول حقوق المرأة والطفل كما يرى هوفمان واضحة من خلال كتاباته، كما أن كتابات الآخرين مما يُعزِّز كذلك رؤية هوفمان حول الانتهاك الصارخ لحقوق المرأة والطفل والأسرة! ومثال واحد صارخ من أمريكا عن مزاعم هذه الحقوق يكشفه برنامج تلفزيوني تتقزز منه الإنسانية! وتشمئز منه الفطرة الإنسانية السليمة، وهو بعنوان (أنت لست الأب) وهو من أشهر البرامج في التلفزيون الأمريكي ويُعرض على قناة NBC منذ عام 1991م. وهو مُكوَّنٌ من 19 موسماً، ووصل عام 2020م إلى  3500 حلقة. وفي كُلِّ حلقةٍ يتم عرض ثلاث أو خمس حالاتٍ من الأزواج على الأقل. وفيه يتم جمع الأزواج وزوجاتهم مصحوبين أحياناً بنتائج علم الوراثة المعاصر مع أولادهم أمام الجميع؛ لِيثْبُت في معظم الحالات أن الأولاد غير شرعيين ولا ينتسبون لآبائهم. ومن ذلك أنه يتم في كل برنامج أن تقوم امرأة من محترفات الفاحشة بدعوة عددٍ من الرِجال إلى البرنامج، ممن أقامت معهم الفاحشة بعلاقةٍ جنسيَّةٍ محرمة، هكذا أمام الناس، ودون أدنى ذرةٍ من حياء أو خجل؛ وذلك ليخضعوا لفحص الحِمض الوراثي DNA. والغرض منه هو لكي تعرف هي من هو والد طِفلها أو طِفلتها.([8])

فأين حقوق المرأة وكرامتها؟! بل أين حقوق الطفل؟! وأين حقوق الرجل الإنسان والأسرة التي يتشدق بها الغرب؟!! أليس حق الأبوَّة مفقوداً بهذا الواقع، وهو أساس كل الحقوق في الحياة الإنسانية! والسخرية أن مرتكبي هذه الجرائم والجنايات بحق الإنسان هم من يُحاضِرون بدروسهم وإعلامهم على المسلمين اليوم بحقوق الإنسان! وحقوق المرأة! وحقوق الطفل! بل وأن الإسلام ظَلَم المرأة ولم يُعط الزوجة حقوقها! أليست هذه هي المزايدة حقاً؟! ومن هنا يجب التأكيد على أن مبدأ تشريع حقوق المرأة في الإسلام يؤكد على تحقيق العدالة لها، وهو أهم حق في مساواة التكامل، فالكرامة الإنسانية في الإسلام حقٌّ للرجل والمرأة على حدٍّ سواء، ومساواة التكامل في الوظائف والواجبات بينهما حقٌّ آخر كذلك.

ويرى هوفمان –كما هو غيره- أن الأحكام الإسلامية المتعلقة بالمرأة تَعتَبِر الاختلاف في ترتيب المساواة منطقياً ومُبرَّراً، حيث الاختلاف البيولوجي بين الجنسين وعدم المساواة الجسدية أمرٌ يَحسِمُ مفاهيم مساواة التماثل ليكشف حقيقة الثقافة الغربية وإهانتها للمرأة، بل إن هذا الاختلاف هو ما يفرض تشريع القوامة في الإسلام تكريماً للمرأة. فالقوامة تعني المسؤولية الأسرية والكفالة والحماية وحقوقاً أكثر للمرأة على الرجل مما تحتاجها المرأة في أي مجتمع كان. ويتجاهل ميثاق حقوق الإنسان الغربي هذه المفاهيم والاختلاف الفطري البيولوجي! وذلك عن قصد لمصلحة مساواة خيالية يتم الدفاع عنها بمكابرة ثم بمزايدة!

كما أن مما تعنيه قوامة الرجل على المرأة في الإسلام هو تقدير الاختلاف الفطري حول إمكانيات الرجال البدنية أو المالية، التي هي غالباً عند الرجال أكبر منها لدى النساء، مما يَصُّب في حق المرأة ووجوب النفقة عليها ورعايتها وحمايتها بكرامة حقوقية مُثْلَى. ويرى هوفمان وغيره من المؤمنين والمنصفين أن تشريعات الإسلام تُلبي كل حقوق المرأة الأساسية! بل كرامتها فوق ذلك! –إن هم أرادوا فهم ذلك أو العمل به-.

ومما يراه هوفمان أن تعدد الزوجات يُعدُّ حقاً للمرأة على المجتمع –مثلاً- ففي هذا تلبية لحقوق المرأة ذاتها في الزواج النظيف، وحقوقها في الإنجاب المشروع، وما في هذا من حماية لحقوق الطفل بالأسرة والأبوَّة. وهذا التعدد المشروع هو حق وتكريم للمرأة أكثر من كونه حقاً للرجل. وهو حق تفرضه أحياناً الديمغرافيا السكانية؛ بسبب زيادة أعداد النساء على الرجال ليُقدِّم الإسلام الحل النظيف للمرأة وأطفالها! ولتنتهي المزايدة أو لتنكشف حول هذا الجانب، فإن حالات التعدد في الإسلام أقل بكثير من حالات الخيانة الزوجية مع العشيقات في الغرب! كما يقول هوفمان ويقرِّره وهو الخبير بالغرب، وذلك في مواضع كثيرة من كتبه ومقالاته!([9]) 

ولهذا يعتقد كل مسلم أن القرآن سبق في تشخيص حقيقة الغرب النصراني المتعصب ومزايداته ومن سار في ركابه ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ (النساء:89). ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ (النساء:27).

3- الديمقراطية: الديمقراطية الغربية تُعدُّ من أنجح التجارب البشرية المعاصرة في تحقيق شيء كثير من العدالة في الغرب، خاصةً ما بعد الحرب العالمية (الأوروبية) الثانية، حينما حققت لدول أوروبا وأمريكا الاستقرار السياسي وحق الانتخاب وحقوق الإنسان داخل المنظومة الغربية ويقيناً أنها –بالرغم من نقائصها- أفادتهم كثيراً في حياتهم السياسية، لكن تساؤلات عدة تطرحها بعض الأحداث السياسية، وكثير من الحوادث العسكرية العدوانية داخل الغرب نفسه وخارجه، وذلك عن مدى الالتزام بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان خارج حدود هذه الدول تحديداً. ومنها ماذا يعني الصمت عن الاستبداد السياسي للحكومات في معظم دول العالم الإسلامي أو دعمه! رغم المآسي الإنسانية كما في العراق وسوريا وأفغانستان وفلسطين على سبيل المثال؟ وماذا تعني حقوق الإنسان الغربي القائمة على نهب ثروات ومقدرات الشعوب الأخرى وإفقارها وسلب حقوقها كما في دول أفريقيا كمثال؟ والقائمة من التساؤلات تطول وتزداد في وضوح المزايدات!

وعلى المستوى الداخلي ماذا تعني قيم الديمقراطية إذا كان يصحبها أعلى نسبة مساجين في العالم! ومن أعلى دول العالم في حالات المخدرات والخمور! وحجم اللقطاء من الأطفال غير الشرعيين تغص بهم دور الحضانة! كما هو الحال في أمريكا؟ فالديمقراطية السياسية الغربية بالرغم من نجاحها السياسي إلا أن إخفاقاتها الأخلاقية تُعدُّ مما يُهدِّد بقاءَها مع أن عمرها الزمني قصير جداً، والحكم في الغالب يكون على المآلات والنهايات.

وحول الاستفادة من هذه الديمقراطية يكفي أنها ليست ملكية فكرية غربية، بل إنها في شِقِّها الإداري دون الأيديولوجي ممكنة التطبيق في المجتمعات الإسلامية، حيث –في رأيي- لا يتعارض جانبها الإداري مع تشريعات الإسلام في تحقيق العدالة، بل إن عدم احتكار الديمقراطية في الغرب أَنْجَحَهَا إلى حدود كبيرة أو إلى مدى معيَّن في بلاد أخرى مثل تركيا وماليزيا وأندونيسيا وباكستان باختلاف في مستوى النزاهة والشفافية في التطبيقات بين الدول، فلا مجال للمزايدة في شيء يمكن امتلاكه أو العمل به من الجميع.

ثم إن النظم الديمقراطية وقوانينها وحرياتها في الغرب تسقط بشكل مُريع كما هو مشاهد في الواقع عند أي خلل أمني أو اضطراب اجتماعي، أو مظاهرات أو حروب وصراعات داخل الدول الغربية ذاتها! فيكف تعاطت مثلاً بعض الولايات الأمريكية مع أحداث شغب المظاهرات المناهضة للعنصرية عام 2020م. فالولاية التي يحكمها حاكم ديمقراطي –حسب التقارير والأخبار- يريد إسقاط ترامب الجمهوري من خلال تساهل حاكم الولاية أو نوعية تعاطيه مع أحداث الشغب والمظاهرات، حتى لو احترقت مدن الولاية بالكامل نكاية بالحزب الحاكم المنافس (الجمهوري)!([10]) فهل الديمقراطية الغربية وصلت إلى هذا المستوى من عدم الحس الوطني؟! وربما يتكرر التساؤل حول ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية من خدشِ أو كسرٍ لهذه الديمقراطية حينما كان اقتحام مبنى الكونغرس بتاريخ 6 يناير 2021م من بعض المتظاهرين الجمهوريين بعد إعلان فوز الديمقراطيين، وهو ما يعكس شيئاً من حقيقة الديمقراطية أو هشاشتها في محضنها الأول.([11]) 

والأكثر من ذلك عن هذه المغالطات والمزايدات الغربية المكشوفة مع الإسلام هو سوء الفهم عن حقيقة العدالة في تشريعات الإسلام وأصول الحكم. حيث وهو الاتهام الباطل القائل بعدم القدرة الجوهرية للإسلام وتشريعاته المثبتة تاريخياً عبر عصور الدول الإسلامية المتعاقبة! حول الاحترام لحقوق الإنسان وكرامته، وحول تطبيق معظم قيم العدالة بصورة فعلية في الحكم السياسي والعدلي والجنائي والقضائي! فالعدل في الإسلام وتشريعاته منافسٌ بشموله وكماله لما لدى الغرب والشرق، بل منافس لجميع أنواع العدالة البشرية في الأرض، كما أن حقائق التاريخ الإسلامي دامغةٌ في جوانب التطبيق عبر عموم العصور الإسلامية، وفيها كان وضع الحكم عدلياً إلى حدٍّ كبير باستثناءات يسيرة. وتمَّ هذا بالفعل في وقت كان الغرب في عصوره الوسطى (الظلامية) يعيش المَلَكيات والإقطاع والظلم بكل أشكاله وصوره! وفي زمن كان الاستبداد الديني فيه مُسيطراً بكل فئاته وطوائفه على الشعوب الغربية! وقد تمتع المسلمون ومن كان تحت حكمهم آنذاك من الأقليات الدينية والعرقية بنظام عدلي وقضائي فريد من نوعه، كما دوّن ذلك منصفو الغرب ذاته.([12])     

وحول القيم الشورية في الإسلام أكَّد هوفمان أن الله سبحانه وتعالى حينما يطلب من المسلمين العفو والإصلاح عند فض خلافاتهم الصغيرة والكبيرة فإن العدل الإلهي غير غائب في مشروعية وجوب تحقيق العدالة ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (الشورى:38-40).([13])  

وحسب هوفمان: إن هذه الآيات وأمثالها يمكن الاستنباط منها مبدأً تشريعياً عاماً يتضمن الحق في الديمقراطية والمشاركة السياسية، ومشروعية رد العدوان والظلم. ثم ألم يكن الخلفاء الراشدون الثلاثة الأوائل قد تم انتخابهم، دون أن يكونوا من ذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فهل يمكن للمنصف استنتاج أن الدولة الإسلامية يمكن أن تكون جمهورية ديمقراطية؟ وليس بالضرورة اشتراكية أو مَلَكِية! والحق أن التعثر في المصطلحات لدى بعض المسلمين لن يكون عائقاً عن الاستفادة مما لدى الآخر، خاصةً أنه من الثابت أن الإسلام قد وضع أنموذجاً إسلامياً للحماية الشرعية القانونية للإنسان في الحكم، وحق الحياة السياسية، والحقوق الاجتماعية الأخرى بعدل وإنصاف. ([14])    

ولا شك عند أي مؤمن بالإسلام أن مثل هذه الأنظمة والتشريعات – التي شرعها الله لعباده والتزموا بها تجاهه من حيث المبدأ – أكثر فعالية ورسوخاً من تلك القوانين التي يُحدِّدها عَقْدٌ اجتماعي أو سياسي، ليس قائماً في الأصل على رقابة الله وتقواه، وهي الضابط الأقوى للعدالة والسلم بين البشرية.

ولعل هذه النتائج السابقة تكشف شيئاً كثيراً من الحقيقة حول بعض المزايدات الغربية، وقديماً قال المثل: الحق أكبر من الشمس التي لا يمكن حجبها بغربال.

 

د. محمد بن عبدالله السلومي
باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
info@the3rdsector.org

_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

([1]) المقصود بالمزايدة هنا هي: التباهي بامتلاك ما ليس عند الآخرين من الفضائل والمزايا زعماً وظناً وتخرصاً لا تحققاً. ويمكن الرجوع للبحث العلمي لمراد هوفمان حول هذه المزايدات الغربية.

([2]) للكاتب دراسة بحثية في كتب هوفمان ورؤاه وما فيها من مقارنات بعنوان: (المفكر الألماني مراد “ويلفرد” هوفمان – رؤيته في احتضار الغرب! وصعود الإسلام!)، وتُعدُّ هذه الورقة من نتائج الدراسة.

([3]) انظر: مراد هوفمان، بحث علمي بعنوان: (مصطلح حقوق الإنسان غير معروف في الديانات الإبراهيمية)، ترجمة مصطفى السليمان، موقع قنطرة، بتاريخ 12/03/2003م، الرابط التالي: https://ar.qantara.de/node/10427، تم النقل منه هنا بتصرف كبير وببعض الإضافات.

([4]) انظر على سبيل المثال: المرجع السابق.

([5]) هذه العبارات من هوفمان تحتاج إلى تأمل وقراءة في النص الأجنبي الأصلي لمعرفة المقصود بها، حيث النظام الإسلامي بعمومه وشموله يغطي جميع حقوق الإنسان، بل وكرامته، وانظر عن هذه الرؤية السابقة لهوفمان، المرجع السابق.

([6]) انظر: مراد هوفمان، مستقبل الإسلام في الغرب والشرق، ص151-152، والإحصاءات الواردة تُعدُّ قديمة!

([7]) انظر: ميريام جيبهارت، عندما جاء الجنود: اغتصاب النساء الألمانيات في نهاية الحرب العالمية الثانية (Als die Soldaten kamen: Die Vergewaltigung deutscher Frauen am Ende des Zweiten Weltkriegsط1، ميونيخ: (DVA) Deutsche Verlags-Anstalt، 2015م، ص21.

وتذكر بعض الاحصائيات أن الصرب اغتصبوا بين (12.000) إلى (50.000) امرأة بوسنية. وكان هذا الاغتصاب ممنهجاً بغرض الإساءة والانتهاك لحقوق المسلمين والمسلمات. انظر: موقع (الأمم المتحدة حقوق الإنسان)، الرابط التالي:

https://www.ohchr.org/EN/NewsEvents/Pages/DisplayNews.aspx?LangID=E&NewsID=26171

([8]) انظر: صحيفة المدينة الإخبارية، مقال بعنوان: (اقرأ عن السقوط الأخلاقي في الغرب)، بتاريخ 20 أغسطس 2020م، الرابط التالي:

https://bit.ly/3hs5n7J.

([9]) انظر: مراد هوفمان، رحلة إلى مكة، ص135.

([10]) انظر نموذجاً توثيقياً عن هذا الحدث: صحيفة الشرق الأوسط، بعنوان: (ترامب يدعو حكام الولايات إلى موقف أكثر صرامة حيال الاحتجاجات)، بتاريخ 1 يونيو 2020م، الرابط التالي: https://bit.ly/3btRsh5

([11]) انظر تفاصيل عن اقتحام الكونغرس:  مقال: (تعليق جلسة الكونغرس بعد اقتحام متظاهرين مؤيدين لترامب لمقره)، موقع DW الألماني، بتاريخ 6 يناير 2021م، الرابط التالي: https://bit.ly/3hTlMVH

([12]) انظر على سبيل المثال الباحثة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها شمس الإسلام تسطع على الغرب.

([13]) انظر: مراد هوفمان، مستقبل الإسلام في الغرب والشرق، ص148.

([14]) انظر: مراد هوفمان، بعنوان: (مصطلح حقوق الإنسان غير معروف في الديانات الإبراهيمية)، ترجمة مصطفى السليمان، موقع قنطرة، بتاريخ 12/03/2003م، الرابط التالي: https://ar.qantara.de/node/10427

 

قراءة في كتب هوفمان حول رؤيته في الحداثة وأثرها على أفول الغرب! (1/2)

 

لا توجد تعليقات

بريدك الالكتروني لن يتم نشره


الاشتراك في

القائمة البريدية

اكتب بريدك الالكتروني واضغط اشتراك ليصلك كل جديد المركز

تصميم وتطوير SM4IT