كتب والده فقال عن ابنه: لقد أعطاني ربي عز وجل الكثير من الخير والبركات، ومن ذلك أن وهب لي ذرية -جعلها الله طيبة مباركة- علَّمتُهم (وتعلَّموا منِّي) كواجب شرعي -عند أي أسرة مسلمة-، نتعلم من الحياة فنصيب ونخطئ ونذنب ونستغفر بما فينا ابننا عبدالملك -غفر الله له ورحمه- وهي طبيعة البشر فلسنا بملائكة معصومين من الذنب والخطيئة.
ومن مسلَّمات الحياة في جميع المجتمعات أن الوالدين مربين وأساتذة لأبنائهم وبناتهم، فهم بيوت خبرة مشفقة لأولادهم -حسب أنماط بيئتهم- لكن أن يكون الابن أو البنت أستاذاً لأبيه أو لأمه في بعض الأمور فهذا ما لا يعرفه أو يدركه تمام الإدراك الكثير من الآباء والأمهات، وفي هذا المقام كتبت بعضاً من الذكريات التي لا تخلو من العاطفة عن ابني عبدالملك فأقول وبالله التوفيق:
((لقد علمني ابني عبدالملك رحمه الله)) أو تعلمت منه.. أشياء كثيرة ومعاني حميدة.
علَّمني – رحمه الله – المعنى الحقيقي -العملي- لاحتساب المفقود والشكر للموجود حينما عشتُ الحزن بالفقدان، وفهمت لماذا تكرر كثيراً في القرآن نفي الحزن عن أهل الجنة وأن انتفائه من أساسيات نعيمها، كما أدركتُ -عملياً- معنى قول الله تعالى عن فقدان يعقوب لابنه يوسف: “وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ” (84- يوسف)، ومما أيقنت به بعد وفاته أن الابتلاء درجات ومستويات، فالابتلاء من الله يتضاعف على ذوي الميت حينما يكون بموت الفجأة، ثم إن الابتلاء يزداد حينما يكون الفقدان متعلقاً بالابن حيث هو ثمرة الفؤاد، ويتضاعف الابتلاء كثيراً حينما يكون هذا الابن بارَّاً بوالديه وقرة عين لهما، ثم يَعظُم الابتلاء حينما يكون الابن من سواعد والديه يُعدَّانه علمياً وتربوياً ليكون معهما في رسالة الحياة التي اختطاها لنفسيهما، فتكون حرارة الفقدان لثمرة الفؤاد بالفؤاد ليست كغيرها، وكأن ابن الرومي يصف حالنا مع ابننا عبدالملك حينما قال:
على حينِ رُمْتُ الخيرَ من لَمحاتِه وآنستُ من أفعاله آيةَ الرُّشدِ
طــواهُ الرَّدى عــنِّي فــأضحَى مزارُه بعيداً على قُربٍ قريباً على بُعدِ
وأدركت دوافع العالم شمس الدين محمد بن عبدالله الدمشقي الشافعي تأليف كتابه (برد الأكباد عند فقد الأولاد)، لكن هذا الحدث بمضاعفاته علَّمني أن الصبر حقاً لا يتحقق إلا بالمصابرة والتصبر، وأن عزَّائي في فقدانه يكون بإيماني بأنه سبقنا إلى رب غفور رحيم، ومما عزَّاني ما قرأته لأبي مسلم الخولاني (ت 62هجري) رحمه الله في قوله: “لأن يولد لي مولود يحسن الله عز وجل نباته، حتى إذا استوى على شبابه، وكان أعجب ما يكون إليَّ قبضه مني، أحبَّ إليَّ من أن يكون لي الدنيا وما فيها”.
ومما عزَّاني فيه أن موته كشف لي حجم محبته عند غيري من أقربائه وذويه وأصدقائه ومحبيه، حتى شاطرني في فقدانه والحزن عليه المئات بل الآلاف من أولئك، وما رأيته من الآخرين خير شاهد على ذلك، -فحمداً لله وشكراً له-.
((علَّمني ابني)).. حينما قمت بزيارته في مدينة (يورك) البريطانية في السنة الأولى من بعثته الدراسية أشياء كثيرة لكن ذاكرتي احتفظت بما استوقفني حينما مررنا بجوار كنيسة يورك وقال لي: إن بلدية المدينة تمنع منعاً باتَّاً أي بناء أو مباني تعلو على تلك الكنيسة في أرجاء المدينة وكان لا يتجاوز ارتفاعها أربعة أدوار أو خمسة، فأدركت تقديس المقدس رغم علمانية الدولة التي تفصل بين الدين والحياة، ((وعلمني ابني)) بعض صنوف المعرفة حينما زرته قبيل انتهاء دراسته للماجستير في مدينة (نورج) البريطانية بجامعته التي يدرس فيها (إيست انجيلياEast Anglia) وأخذني إلى مكتبة الجامعة، وشرح لي عن بعض الوسائل المعرفية الحديثة في المكتبة، فأدركت الفارق العلمي الكبير في تطور العلم والمعرفة والفوارق فيها بيننا وبين الغرب – مع الأسف-، كما أدركت الفارق المعرفي الكبير بشكل واضح بين فترة دراستي السابقة في بريطانيا (1409 هـ – 1415 هـ) ودراسة ابني عبدالملك (1431 هـ- 1433هـ) ، فانعكس ما علَّمني إياه ابني على مكتسباتي العلمية والمعرفية وثرائها-لا حرمه ربي أجر ما صنع-.
((علَّمني ابني)).. أن استيعاب مفهوم القطاع الثالث وتطبيقاته الإدارية العملية ليس سهلاً بالقراءة النظرية فقط، وذلك حينما قال لي أثناء دراسته في بريطانيا: “حقاً لم أفهم كتابك يا أبي (القطاع الثالث والفرص السانحة -رؤية مستقبلية-) بشكل كامل حينما كنت في وطني -السعودية-، لكنني فهمته عملياً في بريطانيا حينما رأيت وعشت بنفسي واقع قطاعات الدولة، وأن الحكومة في الإدارة الحديثة لا تعدو أن تكون قطاعاً من قطاعات الدولة بل هي أصغر قطاعاتها”، حيث عاش بنفسه مع بعض زملائه جوانب عملية من دور القطاع الثالث في الشراكة والمسؤولية المجتمعية. فقد قام -كأنموذج- مع بعض زملائه في فرز وتصنيف بعض الأثاث الذي في الغالب يتركه الطلبة السعوديون المبتعثون حينما يغادرون بريطانيا، ورأى ما لفت انتباهه عن المنظمات التطوعية ودورها في قوة الدولة واستقرارها، وكذلك عندما شارك بعض زملائه الأنشطة التطوعية المتعددة داخل الجامعة وخارجها، مما أسهم في فهمه عن مشروع القطاع الثالث وأنه برنامج إصلاحي كبير لدول العالم العربي والخليجي خاصة حينما تأخذ به، ولكن لا حياة لمن تنادي -كما قال-.
((علَّمني ابني)).. أن لا أدع للتشاؤم موضعاً في أجواء الغلبة الظاهرة للباطل على الحق فيُورِث الإحباط ويُؤثِّر على العمل، وكثيراً ما كان يقول لي: إن التفاؤل موضعه العسر وليس اليسر، فلن أنسى الفأل ممن تحدَّث عنه، ولن أنسى لابني تذكيره لي بذلك مراتٍ عديدة.
هذه بعض الذكريات وذكريات أخرى من أبٍ عن ابنه بمقال كتبه محمد بن عبدالله السلومي عن ابنه عبدالملك. على الرابط التالي
لا توجد تعليقات