Skip to main content

29_معوقات الأوقاف وآلية التغلب عليها: أبرز المعوقات (جناية الأنظمة البيروقراطية الحكومية على الأوقاف)

(مدخل):

هناك تحديات وعوائق تواجه الأوقاف العامة تتعلق بتنظيمها وتفعيل دورها بالاستفادة منها في جميع مجالات التنمية والتنمية المستدامة، لتحقيق النفع العام وِفْقَ شرط الواقف، ومن هذه العوائق ما يتعلق بآليات التسجيل الرسمي للأوقاف، ومنها ازدواجية مرجعية الوقف بين المحاكم والوزارة أو الهيئة المعنية بالوقف عند حالات الاختلاف، ومنها ما يرتبط بحماية الأوقاف، ومنها ما يتعلق بالإجراءات الإدارية وشفافية مدخلات الأوقاف ومخرجاتها المالية، ومنها ما يتعلق بالناظر أو مجالس النظارة، ومنها ما يتعلق باستثمارات الأوقاف وكذلك مصارفها وحسن إدارتها، ومنها ما يتعلق بموقع الأوقاف العامة من الدولة إدارياً، وهذا العائق الأخير هو المعني بالمناقشة في هذه الورقة لأهميته حيث الموقع الإداري للأوقاف العامة بين قطاعات الدولة يُشكِّل أبرز العوائق.

وعن هذا العائق الرئيس كتب الباحث هذه الورقة العلمية المتواضعة في خمس فقرات تكاملية معنية بمعوقات الأوقاف وآلية التغلب عليها بعنوان رئيس (أبرز المعوقات: جناية الأنظمة البيروقراطية الحكومية على الأوقاف) وعناوين خمسة فرعية: 

وقفة تاريخية عن الحكومات والأوقاف، واقع الأوقاف بين المقدمات والنتائج، نماذج من تاريخ استقلال الأوقاف، تشريعات وتطبيقات الأوقاف، وآليات التغلب على عوائق البيروقراطية الحكومية تجاه الأوقاف (أبرز التوصيات).

وهذه الورقة ليست معنية بمناقشة ما ورد أعلاه من عوائق متعددة، كما أنها ليست معنية بالجانب الفقهي للأوقاف، وليس من مسؤولية هذه الورقة تحديد صورة إدارية معينة بقدر ما هي عرض وتأكيد لأهمية الاستفادة من موقع الأوقاف في إدارة الدولة الإسلامية عبر عصور الأمة الإسلامية وتاريخها، وكيف أنتجت الأوقاف حضارة إسلامية شَهِد بها الأعداء والخصوم! إضافة إلى أهمية الاستفادة من التجربة الغربية في موقع الأوقاف في قطاعات الدولة الحديثة وهيئاتها، وما صحب هذا من منتجات حضارية مشاهدة على أرض الواقع تشهد بها جامعاتها ومستشفياتها الوقفية.

ومن خلال هذه الورقة المعنية بالرصد التاريخي والعرض الإداري تَرِد التساؤلات التالية عن أبرز العوائق ومنها: هل العلاقة المُثلى أن تكون الأوقاف مرتبطة بالقطاع الحكومي وهيئاته أو وزاراته؟ أو أن تكون الأوقاف مرتبطة بقطاع أهلي مستقل عن البيروقراطية الحكومية؟ لتكون الأوقاف قطاعاً من قطاعات الدولة وذراعاً مسانداً للقطاعات الحكومية في جميع صور التنمية المستدامة.

والباحث بهذه الورقة يفتح النقاش الجاد والمحايد عن الآليات العملية التي تحقق للوقف قيمته ومكانته وثمراته، لا سيما أن الإعداد لهذا الملتقى الثاني للأوقاف من لجنة الأوقاف بالغرفة التجارية بالرياض يتزامن مع دراسة مجلس الشورى لنظام (الهيئة العامة للأوقاف) في ظل أوضاع إدارية تتطلب الإصلاح للاستفادة من الجوانب الإيجابية من واقع التاريخ الإسلامي ومن النجاح الإداري الباهر للأوقاف في تجربته الغربية المعاصرة.

ولذلك ففي هذا المقام فإن أخطر من وجود المرض عدم تشخيصه، فجميع المؤتمرات المعنية بالأوقاف -وهي متعددة وكثيرة- لا تتطرق في أوراق عملها إلى بحث المشكل الرئيس والمعوق الأساسي للوقف في العالم العربي، فمعظم مشكلات الأوقاف ناتجة عن ترسيم الأوقاف كإدارات أو وزارات أو هيئات حكومية بيروقراطية، وهذا ما لا يُتناول بالبحث والنقاش في المؤتمرات والبحوث وغيرها -مع الأسف- بالرغم من أولوية حشد معظم الأوراق العلمية لمناقشة هذا الموضوع الرئيس لأهميته البالغة، ويختم مقدم الورقة بعرض لأبرز آليات التغلب على هذا العائق -حسب رؤيته- من خلال كتابة أبرز التوصيات في ختام هذه الورقة مستعيناً بما كتبه خبير الأوقاف والقطاع التطوعي الشيخ صالح الحصيِّن -رحمه الله-.

(1) وقفة تاريخية عن الحكومات والأوقاف:

يقول بروكلمان في معرض حديثه عن الأوقاف وآثار تطبيقاتها على الأمة، بل عن الحضارة الإسلامية وفضلها على حضارة الغرب: “أما في حقول الثقافة الأخرى فقد أنتج السوريون والمصريون إنتاجا خصباً جداً في عهد المماليك كان لنا (يعني الأوروبيين) فيه ثمرات يانعات، وبخاصة في حقل التاريخ”(2).

ولكن هذه القوة للأوقاف ومنتجاتها في ميادين الحضارة ضَعُفَت، وتلاشى الإبداع المتنوع والمتعدد عند المسلمين إبان غزو العالم الإسلامي واحتلاله – في العصور المتأخرة – وما صحب ذلك من مصادرة للأوقاف أو إضعاف لدورها وأثرها، وتلا تلك الفترة التاريخية حكومات علمانية أو حكومات بيروقراطية أجهزت على الأوقاف أو على فاعليتها أو عليهما معاً تحت مسميات التنظيم والتطوير، والمأسسة والترسيم.

حيث كثيراً ما تكون شعارات التجديد والتحديث والتنظيم في مآلاتها وسائل تقييد أو تأميم أو ترسيم أو مصادرة غير مباشرة، ويؤكد هذا ما جرى ويجري تجاه الأوقاف الإسلامية في أنحاء دول العالم العربي في عصره الحديث، حيث واقع الترسيم الحكومي للأوقاف والآثار الكارثية المترتبة على ذلك، كَتَبَ محمد عمارة عن هذا الموضوع وأكَّد على حق الأمة في الأوقاف وأن هذا الحق ليس (للحكومة) معبراً عن الحكومة بالدولة فقال: “كان مشروع محمد علي باشا (1184- 1265هـ/ 1770- 1849م) في مصر مع بدايات القرن التاسع عشر الميلادي مشروعاً لتجديد شباب الدولة العثمانية، كي لا يسقط في شراك الاحتواء الغربي، الذي كان يحرس أمراضها حتى تحين ساعات وراثتها بعد تقطيع أوصالها.

لكن هذا التجديد قد سلك سبيل الاعتماد على الدولة (الحكومة) بدلاً من الأمة، فاحتذى في تجديد شباب الدولة حذو الدولة الغربية الحديثة، واستعان بالخبراء الفرنسيين وخاصة أتباع سان سيمون (1675- 1755م) في بناء الدولة الحديثة بمصر”(3).

“فبعد أن كان علماء الشرع، ومعهم قادة تنظيمات وروابط ونقابات الحرف والصناعات، هم ممثلي الأمة وأولي أمرها، شرع محمد علي في إحلال الدولة (الحكومة) محل هذه القيادات.. وكان العدوان على الأوقاف -المؤسسة التمويلية الأم لقوة الأمة واستقلال قادتها- السبيل الذي بدأ به محمد علي لإحداث هذا الانقلاب.

فامتدت يد الدولة (الحكومة) إلى أراضي الأوقاف، ففَرَضت عليها الضرائب (1224هـ/ 1809م) بعد أن كانت معفاة منها.. ثم أخذت فيما سمته مراجعة حجج الأوقاف وتجديدها، وأَمهلت نُظَّارها أربعين يوماً لتقديم الحجج الأصلية، وإلا ألغيت أوقافهم وخضعت لملكية الدولة، وكان الكثير من هذه الحجج قد بليت منذ زمن طويل، كما كانت أعيان كثير من الأوقاف قد أصابها التغيير بأحكام قضائية غير مدونة، وإنما بشهادات شهود قد توفاهم الله منذ عقود وعقود من السنين.. فاستولت الدولة على الكثير من أعيان الأوقاف.

ثم خطت الدولة (الحكومة) على هذا الدرب أكثر جرأة، فاستولت على أراضي الأوقاف الخيرية في عام (1227هـ / 1812م) – وكانت مساحتها يومئذ 600.000 فدان أي أزيد من خُمس الأراضي المصرية البالغة يومئذ 2.500.000 فداناً -! وعندما احتجَّ العلماء على هذا بمخافة خراب المساجد، أعلن محمد علي أنه قد قرر إحلال الدولة (الحكومة) محل الأمة ومؤسساتها الأهلية في الإنفاق على هذه المساجد، وقال للعلماء: (أنا أعمر المساجد المتخربة وأرتب لها ما يكفيها)! فانفتح منذ ذلك التاريخ باب سيطرة الدولة على الفكر الديني، وبدأ الفقيه مثقف ذلك العصر يفقد الاستقلال الذي ضمنته له الأمة والذي مَوَّلته مؤسسة الأوقاف عبر تاريخ الإسلام”(4).

لقد وصل الأمر ببعض الأنظمة الحكومية أو من ينوب عنها في شؤون الأوقاف إلى الافتئات على الأحكام الفقهية للأوقاف فاستُحدثت مصطلحات فقهية لا أصل لها في الشرع، مثل القول: “أن الحاكم ولي الأمر أو من يُنيبه هو الناظر الأعلى للأوقاف” ليكون تجريد نظارة الوقف من المسؤولية الشرعية أو إضعافها، كما أن هذا الطرح يهوِّن من نظارة الوقف ومرجعية القضاء أمام ما يُسمى الناظر الأعلى للأوقاف كمصطلح مُحدث -مُبتدع!!!

وفي هذا الصدد رصد محمد عمارة الآثار المدمرة لهذا الترسيم والتأميم الحكومي للأوقاف على مستوى قوة الأمة بشكل عام وفي مقاومة الاحتلال بشكل أخص، بل وَذَكَر مقارنةً تاريخية مهمة نقلها عن الإمام محمد عبده فقال: “وبعد أن حلَّت (الدولة) محل (الأمة) في رعاية مفكريها ومثقفيها، أصبحت الدولة –والوالي- (ولي النعم) بالنسبة للمثقفين والمفكرين.. لقد احتكرت الدولة صناعة الفكر والتحديث، ومن ثم أمَّمت المثقفين والمفكرين.

ولقد رصد الإمام محمد عبده آثار هذه المتغيرات، والتي مثَّلت منعطفاً حاداً في العلاقة بين الدولة والأمة كأعمق ما يكون الرصد، وحلَّل آثارها كأجود ما يكون التحليل، فأبان -فيما كتبه عن آثار محمد علي في مصر- كيف كان الرجل (تاجراً زارعاً، وجندياً باسلاً، ومستبداً ماهراً، لكنه كان لمصر قاهراً، ولحياتها الحقيقية معدماً) ودلَّل على حقيقة تراجع (الأمة) لحساب (الدولة) بالمقارنة بين موقفين تاريخيين، فأمام الحملة الفرنسية – التي قادها بونابرت (1769- 1821م) على مصر (1213هـ / 1798م) لم تنهزم الأمة بانهزام الدولة (الحكومة).. بل قاومت حتى فرَّ بونابرت – قاهر أوروبا – بليلٍ أمام مقاومتها!، فلما أحدثت تجربة محمد علي ما أحدثت من تغييرات في العلاقة بين الأمة و (الدولة).. وجاء الجيش الانجليزي ليحتل مصر (1299هـ/ 1882م) كانت هزيمة (الدولة) هي نهاية المطاف، فلم تقاوم (الأمة)، كما صنعت من قبل، بقيادة العلماء والتجار وتنظيمات الحرف والصناعات!.

لقد تراجعت (الأمة) وَفَقَدت قيادتها الشعبية دعم الأوقاف.. المؤسسة الأم التي موَّلت صناعة الحضارة الإسلامية، والجهاد لحماية هذه الحضارة على مرِّ تاريخ الإسلام.. وبقيت الدولة (الحكومة) وحدها في مواجهة التحديات”(5).

(2) واقع الأوقاف بين المقدمات والنتائج:

هذا الواقع الذي حدث في مصر – حيث ارتبطت الأوقاف بالحكومة المصرية تحت مسميات التنظيم والتحديث والتجديد – أحدث تحولاً خطيراً في دول العالم العربي والإسلامي في سياسة التعاطي مع الأوقاف، وأصبحت الأوقاف وزارة حكومية مرتبطة بالحكومة أكثر من ارتباطها بالأمة وبالقضاء الشرعي مما أسهم في إضعاف أهم مصدر من مصادر إعادة الحضارة الإسلامية، وقد سارت الحكومات المتعاقبة في مصر وغيرها على هذا المنوال تُحدِّث وتُطوِّر في نُظم الأوقاف الداخلية متجاهلة المرض الرئيس الذي تم تجذيره في ربط الأوقاف بالحكومة من خلال استحداث وزارة الأوقاف لتكون هي المعنية بالدرجة الأولى في شؤون الأوقاف والواقفين، والمصيبة تتعاظم حينما انتقلت فكرة ميلاد وزارة معنية بالأوقاف من مصر إلى سائر دول العالم العربي اقتداءً بالتجربة الإدارية المصرية.

لقد وصل الأمر بمحاولات تطبيع الترسيم للأوقاف أن التسويق للأوقاف العلمية أصبح مقصوراً على الجامعات الحكومية بدعوى الاستفادة من تجربة الجامعات الأمريكية ومؤسساتها المانحة مثل: مؤسسة فورد، ومؤسسة روكفلر، ومؤسسة كارينجي، ومؤسسة كيلوك، ومؤسسة جونسون، ومؤسسة مارك آرثر. وجامعة هارفارد، وجامعة ديوك.. وغيرها من الجامعات. علماً أن هذه المحاولات والدعوات تتنافى مع واقع الجامعات الأمريكية، فسياسة الوقف والإيقاف في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها إنما هو على الجامعات (غير الحكومية) و(غير الربحية) وهو ما يُسمى القطاع الثالث بهدف دعم هذا القطاع المستقل بمنظومته المتكاملة في منافسته لجامعات القطاع العام والخاص، ودعم استقلاله العلمي والمعرفي واستقلال أوقافه، وبالتالي قوة أبحاثه ودراساته في خدمة الوطن -أي وطن-، وهذه الاستقلالية انعكست على تفاعل المجتمع الغربي والأمريكي بشكل خاص لاسيما من أصحاب الثراء لوقف معظم ما يملكون من أسهم وشركات وأموال وعقارات.

وأختم القول عن واقع الجناية الإدارية بحق الأوقاف في بلادنا الإسلامية من خلال واقعها المعاصر حيث عدم وجود مخرجات تنموية للأوقاف، بل ولا شراكة تنموية لها في التعليم أو الصحة أو أي مشاريع خدمية، وفي أحسن أحوال الأوقاف فقد تحولت من وسيلة لتقديم الخدمة والمنافع العامة إلى استثمار، حيث وُجد مع نمط الاقتصاد الليبرالي الرأسمالي نَهَم الاستثمار والتنمية لكامل الوقف ذاته على حساب نفعه وثمراته، فسيطرت على بعض المؤسسات الحكومية (الوزارات) ذلك النمط لتنعكس ثمرات الوقف بمخرجات نقدية (رقمية) فقط، وأحياناً تكون تلك المخرجات النقدية مرتفعة تتفاخر بها تلك الوزارات ومسؤوليها على حساب مخرجاتها التنموية والخدمية، مع العلم أن نهاية مطاف تلك الاستثمارات النقدية (الرقمية) في واقع الأمر هو دعم الأرصدة النقدية للبنوك المركزية للحكومات، وبالتالي تحول تلك الأرصدة إلى فتح شهية الأجنبي ليتم استثمارها أجنبياً، وهي بهذا الواقع مُسهم في تعزيز الاقتصاد العالمي أو الاقتصاد الغربي والأمريكي بشكل خاص، كما هو الواقع المعلن خاصة لدى دول الخليج العربي التي تستثمر معظم سيولتها النقدية -مع الأسف- بما فيها أموال الأوقاف كسيولة نقدية مدمجة فيما يُسمى بـ(الصناديق السيادية)(6) وغيرها، وفي كثير من الأحوال يتم استثمار السيولة النقدية في سندات الخزانة الأمريكية بفوائد (ربوية) لا تتجاوز في غالب أحوالها نسبة 3% وهذا مالا يساوي حجم التضخم الاقتصادي السنوي العالمي، عدا عن حالات عدم ضمان استرداد تلك الأصول في حالات الإفلاس الاقتصادي العالمي المتكرر وقوعه، علماً أن وقف أموال المسلمين على مصالح الأمة أولى في حفظ سيولتها النقدية كما فعل معظم الخلفاء والولاة في عصور الدول الإسلامية المتعاقبة عبر التاريخ – كما سيأتي.

والمهم في الأمر أن تطبيع النُظم الاقتصادية الرأسمالية المعاصرة في عمق اقتصاد الدول الإسلامية، سواء صُنفت علمانية أو إسلامية، أصبح في نهاية المطاف في ظل التنظيمات البيروقراطية الحكومية يُشكِّل جنايات متعددة على الأوقاف ومخرجاتها بل على الأمة واحتياجاتها، وقد عزَّز هذا الواقع عدم ثقة المواطن وانصرافه عن الإسهام في وقف ماله أو بعض ماله وما يملك وتلك جناية أخرى، وذلك ما تطلب التوعية بمخاطر تلك الجنايات المركَّبة الوارد بعضها في هذ الورقة العلمية المختصرة، وتلك الجنايات تتطلب التذكير بتاريخ استقلال الأوقاف عبر تاريخ الأمة الإسلامية في الحلقة (التالية) من هذه الورقة.

(3) نماذج من تاريخ استقلال الأوقاف:

تُعدُّ الأوقاف حسب التشريعات الإسلامية هيئات مستقلة عن الحكومات ونظُمها، حيث الناظر هو المعني بالأوقاف سواءً كان فرداً أو مجموعة، وقد تحقق هذا الاستقلال على أرض الواقع عبر تاريخ الأمة الإسلامية، ولذلك كان أثر هذا الاستقلال على بقاء الحضارة الإسلامية ودورها في قوة الأمة المسلمة، ومن متطلبات هذه الورقة عرض الجانب التاريخي حول تحول الأوقاف من مؤسسة مستقلة عن الحكومة إلى مؤسسات حكومية وما صحب ذلك من جناية كبيرة بحق الأوقاف والموقفين من قبل الإدارات العلمانية أو الإسلامية المتأثرين بالبيروقراطية الإدارية في ربط الأوقاف بالجهات الحكومية، وأثر هذه الجناية على استقلال الأمة الإسلامية وقوتها، بل وعلى عزتها، وبالتالي نهاية حضارتها.

وإضافة لما سبق فإن دراسة أزمة الحكومات العربية والإسلامية مع استقلالية الأوقاف من الواجبات والضرورات في الدراسات والمؤتمرات المتخصصة بالأوقاف لمعرفة حجم أزمة الثقة ونتائجها، حيث أن هذه النتائج تعبر بأن الأمة غير قادرة أو ليست كُفئاً لإدارة الأوقاف بصورة تخدم الأمة والحكومة على حد سواء، وقد تكون أزمة الاستقلالية للأوقاف ناتجة عن بعض المفاهيم الخاطئة عن مفهوم السيادة على الأوقاف بين سيادة الحكومة وسيادة الدولة التي تمثل الحكومة والأمة وتنعكس على قوتهما على حد سواء.

كتب المستشار طارق البشري عن هذه الأزمة فقال في تقديم كتاب (الأوقاف والسياسة في مصر): “إن المشكل الرئيسي الذي نعاني منه سواء في مصر أو فيما هو على شاكلتها من بلاد الشرق –آسيا وإفريقيا- هو في ظني مشكل تنظيمي، يتعلق بكيفية إدارة المجتمع من خلال الدولة ومؤسسات النشاط الأهلي والشعبي، بحيث يكون كل ذلك في علاقته بعضه مع بعض كأجهزة الجسد الواحد، أو أجهزة الماكينة الواحدة، لكل جهاز قدراته على العمل الذاتي، ولها كلها قدرة على التعامل المنسجم المتناسق الذي يفيد التكوين الكلي الشامل. ونحن – في مصر وفي من على شاكلتها من المجتمعات- لا تنقصنا الكفاية ولا العلم ولا درجة التحضر ولا مستوى الذكاء، ولا القدرة على العمل الشاق الدؤوب، إنما ينقصنا التنظيم والتنسيق والربط بين الجهود والأعمال…ويرجع ذلك في ظني إلى اننا في بنائنا للمؤسسات الحديثة جاء التركيز على دعم الدولة المركزية، وعظم الجهد باسم الخروج من المجتمع التقليدي على حصار المؤسسات التقليدية القديمة وهدمها أو إهمالها حتى تذوي وتضمحل، وزاد الاهتمام ببناء مؤسسات جديدة على النمط الغربي بغير أن تكون له جذور فكرية وثقافية واجتماعية تصونه وتدعم استقلاله وذاتياته، بل إن الدولة المركزية -كما سبقت الإشارة- عملت على إنشاء هذه المؤسسات تحت جناحها وهيمنتها، وفي إطار قوامة وصائية عليها، كالجمعيات والتعاونيات والنقابات وغير ذلك”(7).

كما أكد الدكتور إبراهيم البيومي غانم تلك الحقيقة السابقة في مقدمة كتابه المذكور فقال: “من منتصف هذا القرن العشرين إلى بداية الثمانينات منه، كان نظام الوقف قد خضع خلالها للعديد من السياسات الحكومية والإجراءات الإدارية التي ألحقت به وبمؤسساته المختلفة أضراراً بالغة، وحولته -في مختلف مجتمعاتنا العربية والإسلامية- من مؤسسة أهلية ذات درجة عالية من الاستقلال المالي والإداري والوظيفي، إلى (مؤسسة حكومية) ملحقة ببيروقراطية الدولة، وخادمة لسياسات السلطات الحاكمة، وقد حدث ذلك في ظل صعود نجم الدولة التسلطية الشمولية في عالمنا العربي، تلك الدولة التي أحكمت قبضتها إحكاماً تاماً على المجتمع، وقضت على تنظيماته الأهلية ومؤسساته التطوعية، وخاصة خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من هذا القرن الذي اقتربت نهايته”(8).

وإضافة إلى ما سبق فتدوين اقتباسات ثرية عن هذا الموضوع من مقالة متخصصة بالأوقاف واستقلاليتها للمفكر الإسلامي والباحث محمد عمارة مما يثري موضوع الاستقلال، فقد أكَّد الباحث فيها على حق الأمة في الأوقاف وعدم أحقية (الحكومات) فيها، وفيها عبَّر عن مصطلح (الحكومة) بالدولة فقال: “ظلت هذه المؤسسة (الأوقاف)، على مر تاريخنا، إحدى أهم مؤسسات (الأمة)، التي رجحت كفتها في مواجهة (الدولة) والتي أعانتها على صناعة الحضارة، على الرغم مما أصاب (الدولة) من انحراف.

ففي الدولة الأموية – وعلى عهد هشام بن عبد الملك (71- 125هـ / 690- 743م) قام أول ديوان للأحباس (الأوقاف)- وكان مستقلاً عن دواوين الدولة –يشرف عليه القاضي– النائب عن الأمة.

وفي العصر العباسي، مع اتساع نطاق الأوقاف، كان يتولى ديوانها من يُطلق عليه (صدر الوقوف)، وظل هذا الديوان مؤسسة أهلية مستقلة عن الدواوين السلطانية.

وكان العلماء على امتداد هذا التاريخ هم الحراس على قيام هذه المؤسسة بدورها في تمويل إقامة الدين وصناعة الحضارة.. وعلى بقائها مؤسسة (الأمة) المستقلة عن (الدولة) ودواوينها.

وحتى عندما كان الواقفون للأموال والثروات خلفاء وأمراء وسلاطين – دولة – فإن إمضاء حجة الوقف كان يعني انتقال هذه الأموال والثروات إلى مؤسسات (الأمة) المملوكة للمالك الحقيقي لهذه الأوقاف باباً دائماً لتصحيح الخلل، الذي كانت تحدثه المظالم والمصادرات في العلاقة ما بين (الأمة) والدولة عبر تاريخ الإسلام”(9 ).

وعن أهمية الأوقاف للجيوش والمجاهدين كتب عمارة فقال: “وفي العصر المملوكي.. وأمام اشتداد الخطر الخارجي -الصليبي والتتري- تحولت الأرض إلى إقطاع حربي انتزعتها (الدولة) المملوكية لأجنادها لقاء الدفاع عنها ضد الغزاة”.

“وفي ذلك العصر كانت الأوقاف، التي بدأ الأمراء والسلاطين يقتطعونها من (الدولة) ويحبسونها على جهات البر.. كانت هذه الأوقاف الباب الذي أعاد التوازن بين (الأمة) و (الدولة) في هذا الميدان.. حتى لقد بلغت هذه الأوقاف العامة نصف أراضي الدولة على عهد السلطان الظاهر برقوق (738- 801هـ/ 1338- 1398م)” ( 10).

وقد كتب المؤرخ الألماني بروكلمان عن هذه الاستقلالية للأوقاف ودورها وأثرها على نشوء الحضارة الإسلامية وبقائها، بل ودوافع المسلمين للمبادرة بالأوقاف فقال: “هذا الإنتاج (العلمي) الواسع العريض في عصر المماليك كان يجد سنده الاقتصادي في نظام الأوقاف الذي أنشئ في عهد العباسيين، والذي انتهى في مصر وسورية إلى غاية من الغنى تكاد تكون خيالية، ذلك بأن كبار المثرين السوريين والمصريين، كانوا كزملائهم العراقيين من قبل، يقفون (يوقفون) ممتلكاتهم الضخمة على وجوه البر وخدمة العلم، صيانة لها من المصادرة”(11 ).

وأقول معلقاً على ما سبق من قول بروكلمان: نعم كان المسلمون يوقفون أموالهم خوفاً عليها من المصادرة، لكن واقعهم اليوم لا يوقفون خوفاً عليها من المصادرة القائمة بشكل مباشر أو غير مباشر.

استطرد عمارة عن دور العلماء في التصدي لإرادة بعض السلاطين والخلفاء ومحاولاتهم – أحياناً – إنقاص الأوقاف فقال: “ولما حاول السلطان -الظاهر برقوق- إنقاص هذه الأوقاف.. وعقد لذلك مجلس شورى تصدى له العلماء وفي مقدمتهم الشيخ أكمل الدين (710- 786هـ / 1310- 1384م) والشيخ سراج الدين البلقيني (724- 805هـ / 1324- 1403م) والشيخ البرهان ابن جماعة (725- 790هـ / 1325- 1388م) قائلين: إن ما رصده الملوك والأمراء للأوقاف يخرج من بيت المال، ولا سبيل إلى نقضه”( 12).

كما كتب عمارة عن تكرار المحاولة من بعض الولاة لإنقاص الأوقاف في العصر العثماني فقال: “ولقد تكرر هذا الموقف في العصر العثماني (1122هـ/ 1709م) عندما أراد الوالي العثماني على مصر -إبراهيم باشا القبودان- نقص الأوقاف المرصودة على جهات البر والخير.. فتصدى له علماء المذاهب الأربعة، مهدرين قراره (لأنه لا تجب طاعته إلا إذا وافق أمره الشرع، فإن خالف أمره الشرع لم يُنفذ.. بل تجب مخالفته)!. وقُرئت فتواهم في مؤتمر عام حضره الأكابر والحكام والعلماء.. فلما عاند الوالي، رفعوا الأمر إلى السلطان أحمد خان (1115- 1149هـ/ 1703- 1736م) الذي أقر فتوى العلماء، فبقيت الأوقاف على ما هي عليه”.

“بل لقد اتخذ العلماء في مصر الموقف ذاته دفاعاً عن الأوقاف في مواجهة السلطان العثماني ذاته (1148هـ/ 1735م)، وفي مواجهة القاضي العثماني، الذي قال: “إن أمر السلطان لا يُخالف، وتجب طاعته”.. وأفتوا بأن إبطال الأوقاف مخالف للشرع” ولا يُسلَّم للإمام في فعل ما يخالف الشرع”! بل وهددوا بالثورة، فعندما كتبوا للسلطان قائلين: “إنه ربما قامت الرعية وهاجت واضطربت أحوالها وماجت، لأن قطع المعايش والأرزاق يفضي إلى قبيح الأفعال وسوء الأخلاق”(13).

وعن دور الأوقاف في استقلالية العلماء والقضاة كتب عمارة فقال: “والأمر الذي يجب التنبيه عليه.. هو أن هؤلاء العلماء ما كان لهم أن يقودوا (الأمة) في مواجهة (الدولة) لو لم تضمن لهم مؤسسة الأوقاف الاستقلال المالي عن هيمنة الدولة ونفوذها. فالأوقاف -التي مولت صناعة الحضارة الإسلامية- هي التي جعلت للأمة وعلمائها هذا السلطان الذي تصدوا به للدولة وسلاطينها.

بهذا صنعت (الأمة) حضارتها حتى في ظل انحراف الدولة (الحكومة).. لأن رجحان كفة الأمة والاستقلال المالي الذي حققته الأوقاف لملحمة صنع الحضارة الإسلامية هو الذي جعل الأمة تواجه توازن (السلاطين – الأمراء) بسلاطين العلماء والعارفين وشيوخ وحجج الإسلام”( 14).

ولأجل تحقيق ما سبق من استقلالية الأوقاف فإن (الحلقة الرابعة) من هذه الورقة العلمية تتطلب الإشارة إلى الآليات الشرعية لحفظ رسالة الوقف واحترام استقلاليته ووسائل حمايته.

(4) تشريعات وتطبيقات الأوقاف:

من المهم في البداية التنبيه إلى أن الأوقاف في الغرب تعزَّزت تحت حكم النظم العلمانية الغربية لكنها على العكس من ذلك في ظل النظم العربية العلمانية والإسلامية حيث الجناية عليها باسم التنظيم والرقابة، ومما يستوجب التنبيه عليه هنا تلك الأهمية لموقع الوقف في التشريعات الإسلامية التي تنصُّ على كونها مستقلة عن الحاكم والحكومة -أياً كانت تلك الحكومة- مرتبطة بشكل مباشر بشرط الواقف الصحيح الذي هو مثل حكم الشارع، وبمرجعية القضاء الشرعي على تلك الأوقاف، وهذه الأمور الثلاثة من أسس بقاء المؤسسة الوقفية وقوتها وأثرها الإيجابي على مصالح الأمة.

وبهذه الأُسس فإن الأوقاف عبر تاريخ الدول الإسلامية المتعاقبة كانت مصدراً من أقوى مصادر الحضارة الإسلامية في تأسيسها وتنميتها وتطويرها لتحقيق متطلبات المجتمع المسلم من التنمية الشاملة المستدامة إلى معالجة للطوارئ والأزمات التي مرت بها الأمة الإسلامية عبر تاريخها، بل إن الأوقاف بقيت رصيداً لبقاء الأمة الإسلامية وصمودها وعودة نفوذ دولها مرة أخرى، بالرغم من سقوط بعض الحكومات عبر التاريخ أو ضعفها.

كتب الشيخ صالح الحصين -رحمه الله- عن فاعلية الوقف في حياة المسلمين وعن صمام الأمان لبقاء الأوقاف واستقلاليتها وقوتها فقال: “وبالرغم من تدهور الدولة الإسلامية فقد بقيت الحضارة الإسلامية راسخة تزدهر وتنمو، وكان ذلك بفضل الله على المسلمين، ثم بفضل نظام الوقف.

فبالأوقاف التي ظل الواجدون من المسلمين يتفننون في تنفيذها لم تتأثر الحضارة الإسلامية ولا المجتمعات المسلمة بقيام الدول أو سقوطها، بل استطاعت أن تقاوم الغزو الخارجي الطاغي، حينما تعرضت لاجتياح الصليبيين والتتار، وظلت مقاومة الحضارة الإسلامية لهذا الاجتياح مثلاً نادراً في تاريخ البشرية.

لقد ساعد على فاعلية نظام الوقف في حياة المسلمين المبادئ التي قام عليها، وأهمها:

1- امتناع التصرف في أصل الوقف، وقد تحقق بهذا المبدأ حماية الوقف وعدم تعريضه لطيش المتولين عليه أو سوء نيتهم.

2-  ما استقر لدى الفقهاء من أن “شرط الواقف الصحيح مثل حكم الشارع” فتحققت بذلك حماية الوقف واطمئنان الواقف إلى استمرار صرف وقفه في الأغراض التي تَهُمّه ويُعنى بها.

3-  ولاية القضاء على الأوقاف فتحققت بذلك حماية الوقف من تدخل السلطات الإدارية الحكومية.

أثبت التاريخ أن أي اخلال بمبدأ من هذه المبادئ كان مسماراً يدق في نعش الوقف”( 15).

ويمكن حوكمة وزارات الأوقاف في العالم العربي ونظمها بمقدار قربها وبعدها في تطبيق هذه المبادئ والالتزام بها لمعرفة حجم جناية الأنظمة على الأوقاف.

يؤكد الحصين على أن الأوقاف رقماً صعباً لدى المستعمر (المحتل) الأجنبي فيقول عن سياستهم تجاه الأوقاف: “فحينما استولت الدول الاستعمارية على بلاد المسلمين في القرنين الماضيين (الثالث عشر والرابع عشر الهجريين)، وكانت تدرك أن الصراع السياسي يعتمد في حسمه على نتيجة الصراع الثقافي والحضاري كان هم الاستعمار الأول القضاء على الحضارة الإسلامية أو إضعافها إلى أقصى درجة ممكنة، ولما كان الوقف هو سند الحضارة الإسلامية وأساس قوتها كان من الطبيعي أن يتوجه المستعمر إلى إضعاف نظام الوقف أو القضاء عليه، وكانت وسيلته في ذلك إدخاله في مجال التنظيم الإداري الحكومي تمهيداً لوضعه تحت سلطة الإدارة وسيطرتها، وحققت هذه السياسة نتائجها فقُضي على نظام الوقف تقريباً في العالم الإسلامي أو شُلَّت فعاليته، واستمرت هذه السياسة المشؤومة في بلدان العالم الإسلامي حتى بعد زوال الاستعمار.

 انتهى الأمر في بلادٍ كمصر العربية إلى صدور نظام يقضى بتحويل الأوقاف في جمهورية مصر العربية إلى مؤسسة عامة (وزارة) تشمل سلطتها كل الأوقاف في الجمهورية عدا الأوقاف التابعة لهيئة أوقاف الأقباط، وعدا الوقف الذي يوقفه صاحبه ويجعل النظارة له وذلك مدة حياته، وعندما يموت يعود إلى المؤسسة العامة، واضح أن النتيجة العملية لهذا النظام هي خضوعه لكل مساوئ البيروقراطية، والعجز الإداري، وأسوأ من هذا كله قيام رادع فعال يمنع أهل الخير من النشاط للوقف ما داموا يعرفون أنه سيؤول إلى الإدارة الحكومية التي إن وثقوا بأمانتها فإنهم لا يثقون بكفايتها.

إن من المحزن أن تسمع بين الآونة والأخرى حتى من إخواننا الطيبين في بلادنا الطيبة الدعوة إلى التنظيم الحكومي للأوقاف، غافلين عن الآثار المميتة لهذا الإجراء، وغير معتبرين بدروس التاريخ وسنن الحياة، وتجارب غيرنا”(16).

وبهذا يتبين لنا مخاطر الأفكار العلمانية أو الأفكار الإدارية الخاطئة التي تتعامل مع الأوقاف بما يحجب ثمراتها، ويمنع خيراتها، بل ويحجب المحسنين عن إيقاف أموالهم، ومن أبرز ذلك تحول إدارة الأوقاف من أهلية إلى إدارات حكومية رسمية، وفي ذلك جناية بحق الأوقاف.

ويلفت الحصين -في المقال سابق الذكر- النظر إلى تعمد الإدارات الحكومية عدم تطبيق نظم الخصخصة رغم شمول غيرها بالخصخصة قائلاً: “إن من المفارقات العجيبة أنه في هذا العصر الذي كشف عن خطأ سياسة التأميم، واتجه بكل قوة إلى الدعوة إلى تخصيص المشاريع، مع ما هو واضح من تأثير التخصيص على العدالة الاجتماعية ومتطلباتها، نرى من أبناء وطننا من أهل الخير والصلاح والعلم، ومن العاملين للإسلام الحاملين همه من يدعو أو يحبذ أو يؤيد السعي لتأميم الأوقاف، وإخضاعها لسيطرة الموظف العام، مع أن نظام الوقف كان في الإسلام وطوال تاريخه من أعظم وسائل العدل الاجتماعي” (17).

(5) آليات التغلب على عوائق (البيروقراطية الحكومية) تجاه الأوقاف (أبرز التوصيات) :

المعطيات العلمية والتاريخية لهذه الورقة العلمية بحلقاتها الأربع السابقة أبرزت واقع وسائل إدارة الأوقاف وعقمها وما في ذلك من إشكاليات، وهذا ما يتطلب تقديم الحلول العملية، ولعلها تتضح في أبرز التوصيات التالية التي تعيد للوقف قيمته واعتباره ونفعه لعامة المسلمين، ومن أبرزها:

1-  يقول الشيخ صالح الحصين – رحمه الله – ناصحاً وموصياً: “ينبغي أن نوقظ إخواننا الصالحين حَسني النية والقصد من غفلتهم، ونفتح عيونهم، على أن تأميم العمل الخيري وبخاصة الوقف خطة تفتقد الحكمة، وهي جديرة بأن تعكس على صاحبها قصده فهو يريد القوة للنظام ونتيجته الطبيعية الضعف، ويريد الإصلاح ومآله الفساد”(18).

2- العمل على استقلال الأوقاف بهيئة أهلية مستقلة عن مؤسسات القطاع الحكومي مرتبطة بالقضاء الشرعي المستقل، ومستفيدة مما يُسمى في الإدارة الحديثة للدولة (القطاع الثالث) الذي ليس قطاعاً حكومياً (القطاع الأول)، وليس قطاعاً تجارياً (القطاع الثاني)، بل قطاعاً ثالثاً مستقلاً عن القطاعين، وترتبط به الأوقاف وجميع المؤسسات والجمعيات المعنية بالعمل الأهلي والخيري والإنساني لتعطي مخرجات كبيرة في التنمية الشاملة للدولة.

3-الاستفادة من النظم الإدارية الغربية التي اقتبست من الحضارة الإسلامية مفاهيم الوقف وعملت بها، وفي هذا المجال يقول الحصين: “ولهذا فإن من أعطوا الحكمة في معاشهم وعلموا ظاهراً من الحياة الدنيا ممن يسمونهم الدول المتقدمة قد انتبهوا لهذا الأمر فحذروه أشد الحذر، وعلى سبيل المثال: يوجد في المملكة المتحدة البريطانية، والولايات المتحدة الأمريكية، والدول التي يسود فيها النظام القانوني الإنجلوسكسوني نظام يشبه الوقف يسمى (الترست Trust).

وقد حرصت حكومات هذه البلدان على عدم التدخل في هذا النظام، واقتصرت على إيجاد نوع من الإدارة يهتم بالرقابة، والمعاونة، وتجميع المعلومات، وتقديمها لذوي العلاقات وأبقت لهذا النظام خصوصيته وفرديته، وحذرت أن تتدخل في إدارته، وليس المجال متسعاً لبيان نتائج هذه السياسة الحكيمة والتي من أهمها تطور هذا النظام، واتساع نطاقه، وقدرته على التحرك ومواجهة حاجات المجتمع المختلفة، والمتعددة والمتغيرة”(19).

4- الاستفادة من التطبيقات الإدارية الحديثة المتعلقة بخصخصة المشاريع والخدمات بتطبيق مفاهيم الخصخصة على الأوقاف بما يحقق شرط الواقف ومرجعية القضاء واستقلال الأوقاف.

وفي الختام.. فإن على الأمة الإسلامية بعلمائها ومثقفيها وعامتها وخاصتها بما في ذلك بلاد الحرمين -المملكة العربية السعودية- أن تتنادى لتصحيح واقع الأوقاف من بيروقراطية الإدارات الرسمية عليها وجنايتها بحقها لتعيد للوقف استقلاليته ومكانته وقيمته وفاعليته وتفاعل المجتمع معه.

والله ولي التوفيق والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

كتبه

محمد بن عبد الله السلومي

بتاريخ: 22 /11/ 1434هـ

 info@the3rdsector.org


([1]) تم نشر أصل هذا الموضوع في مجلة البيان اللندنية عدد شعبان رقم 312 بتاريخ: 21 شعبان 1434هـ، وتم التعديل عليه والتصحيح والإضافة لتقديمه في ملتقى الأوقاف الثاني الذي تنظمه لجنة الأوقاف في الغرفة التجارية الصناعية بالرياض بتاريخ: 3/1/1435هـ.

([2]) أنظر : كارل بروكلمان (تاريخ الشعوب الإسلامية) ص 369-371.

([3]) انظر محمد عمارة (دور الوقف في النمو الاجتماعي وتلبية حاجات الأمة)، بحث مقدم في ندوة: نحو دور تنموي للوقف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت ص 167- 168، نقلا عن د/ محمد طلعت عيسى (أتباع سان سيمون: فلسفتهم الاجتماعية وتطبيقها في مصر).

([4]) انظر محمد عمارة (دور الوقف في النمو الاجتماعي وتلبية حاجات الأمة)، بحث مقدم في ندوة: نحو دور تنموي للوقف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت ص 168-169.

([5]) انظر المصدر السابق ص 169- 170، نقلا عن (الأعمال الكاملة) ج1، ص 728.

([6]) انظر على سبيل المثال مقال: (النفط بين بلح الشام وعنب اليمن) فهد بن عبدالله القاسم على الرابط التالي:

http://www.alarabiya.net/ar/aswaq/2013/05/07/-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B7-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A8%D9%84%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%B9%D9%86%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86.html

([7]) انظر د/إبراهيم البيومي غانم (الأوقاف والسياسة في مصر) ص 13، 14.

([8]) انظر د/إبراهيم البيومي غانم (الأوقاف والسياسة في مصر) ص 17.

([9]) انظر محمد عمارة (دور الوقف في النمو الاجتماعي وتلبية حاجات الأمة)، بحث مقدم في ندوة: نحو دور تنموي للوقف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت ص 165- 166.

([10]) انظر المصدر السابق، ص 166.

([11]) أنظر : كارل بروكلمان (تاريخ الشعوب الإسلامية) ص 369-371.

([12]) انظر محمد عمارة (دور الوقف في النمو الاجتماعي وتلبية حاجات الأمة)، بحث مقدم في ندوة: نحو دور تنموي للوقف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت ص 166- 167.

([13]) انظر المصدر السابق، ص 166- 167.

([14]) انظر المصدر السابق ص 167.

([15]) انظر ورقة علمية بعنوان (تطبيقات الوقف بين الأمس واليوم) للشيخ صالح الحصين، على الرابط التالي: http://rowaq.org/?p=19

([16]) انظر المصدر السابق.

([17]) انظر المصدر السابق.

([18]) انظر المصدر السابق.

([19]) انظر المصدر السابق.

 

تصفح الرسالة pdf

لا توجد تعليقات

بريدك الالكتروني لن يتم نشره


الاشتراك في

القائمة البريدية

اكتب بريدك الالكتروني واضغط اشتراك ليصلك كل جديد المركز

تصميم وتطوير SM4IT