((العطاء غير المؤدلج وانعكاساته!!))
تُصنَّف السعودية بعطائها ومساعداتها الحكومية (المليارية) للدول والحكومات من أعلى دول العالم نسبة إلى دخلها الوطني، بل إنها الأولى قبل الولايات المتحدة الأمريكية والسويد والنرويج على مدى عدة سنوات، فقد تجاوزت المساعدات الخارجية التي قدمتها المملكة الحجم الدولي المطلوب من الدول المانحة حيث بلغت المساعدات 5.5% فقط من المتوسط السنوي لإجمالي الناتج الوطني للمملكة العربية السعودية، في حين أن الأمم المتحدة قررت أن تقدم الدول المانحة ما نسبته 0.7% من إجمالي دخلها الوطني كمساعدات للدول النامية والفقيرة ([1]).
وأرقام البذل السعودي الحكومي عند محاولة جمعها وإحصائها تصدم كل غيور حينما يرى نتائجها العكسية الخطيرة على الوحدة والسيادة، والتفاصيل عن الإحصاءات وحجم العون السعودي لبعض حكومات الدول الممنوحة مما لا يسع المقام لذكره، ولا يُحتاج إلى تدوينه!! صادم بكل المقاييس!!
لقد جنى الوطن السعودي المُرَّ والعلقم من عطاء غير مؤدلج برسالة وعقيدة، والعراق في عهده السابق واللاحق وسوريا ولبنان، ومؤخراً مصر واليمن نماذج حية حينما أصبحت مليارات العون السعودي الحكومي لهذه الدول وغيرها حرب وحراب (إعلامية وسياسية وعسكرية) على الوطن وعقيدته ورسالته!!
أقول هذا بمناسبة صراخ حسن نصرالله من لبنان على السعودية!! وتجاوزات بعض الوسائل الإعلامية المصرية المتكررة بحق بلد الحرمين ورسالته!! وتنَكُّر مخلوع اليمن وغدره!! فهل لأن هذا العطاء الحكومي للحكومات في غالب أحواله غير مؤدلج؟ بمعنى هل يصل التنكر للعطاء الذي لا يحمل أفكاراً تنطلق من عقيدة بلاد الحرمين وثقافتها ليكون إلى هذه الدرجة من النكران؟ الحقيقة التي تحتاج إلى مراجعة: أن العطاء السعودي كما هو ظاهر في معظم مدخلاته ومخرجاته يتم تحت ما يُسمَّى (عطاء إنساني) مجرد، أو (مجاملات سياسية) وفي كلتا الحالتين فهو -مع الأسف- عطاء مفرَّغ في غالب أحواله من الهدف الإيديولوجي الفعال والإيجابي الذي يبقى ويعكس الانتماء أو الولاء المستمر، لاسيما أنه عطاء للحكومات وليس للشعوب!!
وهذا هو جوهر الفرق بين عطاء دولة إيران المؤدلج بفكرها وأثره وتأثيره في كسب الشعوب والحكومات في العالم، بل وتجييش الأنصار وحشد الأعوان –بغض النظر عن فساد تلك الإيديولوجيا الشيعية الصفوية- فالعطاء المؤدلج فيه كسب للعقول والقلوب والأفكار، والقوة دائماً هي للأفكار العظيمة والعقائد كما قال ريتشارد نيكسون في كتابه ما وراء السلام، حيث السياسة تستمد قوتها من الإيديولوجيات التي تبقى، وليس العكس.
ولاية الفقيه والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية تُعَدَّان في التنظيم الإداري الإيراني فوق مؤسسات القطاع الحكومي، لكن هذا الواقع يتكامل مع الحكومة بما يشبه القطاع الثالث في الغرب، فالإيديولوجيا الإيرانية بهذا الواقع تصنع التأثير الإيجابي للقوة السياسية الخارجية.
كما أن من الفروقات الجوهرية بين العطائين أن العطاء الحكومي السعودي لا يعمل وِفْقَ الآليات والوسائط التي تنتهجها معظم دول العالم، حيث تُعلِن الدولة –أية دولة- التبرع وحجمه، ثم تُنفِّذه هي بمؤسساتها ومنظماتها الوطنية الأهلية -غير الحكومية- كأذرعة خارجية وِفْقَ المعايير الدولية المطلوبة، بل ووِفْقَ أجندات المانح وأيديولوجيته مما هو مُعلَن وغير مُعلن، وليس بهذا مخالفة قانونية كما قد يُصوَّر، وهو في الوقت ذاته ليس بموضع حياء أو استحياء أو خجل من قِبَل جميع الدول.
فالثقافة والسياسة متلازمتان، وفصل السياسة عن الثقافة في الغرب ومنظماته غير مطروح أصلاً، كما عبَّر عن ذلك هشام ناظر في كتابه القيِّم (القوة من النوع الثالث ص26)، ومن ذلك أن العطاء للدين في الولايات المتحدة الامريكية –بالرغم من إعلان علمانيتها- يتجاوز ثلث مجموع العطاء حسب الإحصاء السنوي الأمريكيGiving USA وذلك على سبيل المثال.
وكذلك فإن الأدلجة تتلازم مع العطاء الأوروبي كالتنصير مثلاً، ومثله العطاء السوفيتي بأيديولوجيته الشيوعية، فالعطاء ينطلق في الغالب لتحقيق مصالح الدول، وهذه المصالح هي أيديولوجياتها، فالمصالح تُعدُّ من المبادئ والقيم في دستورها، وبغض النظر عن صحة الأهداف من خطئها لكنها تُعبِّر عن الدوافع الإيديولوجية، علماً أن الدوافع الإنسانية ليست بريئة أو مفرَّغة من الإيديولوجيات كما يزعمون.
فالرئيس أوباما في كتابه (جرأة الأمل ص31) عبَّر عن الإيديولوجيا الأمريكية في العطاء بقوله: «التصدي لمشكلات الفقر في العالم والدول الفاشلة أمر حيوي لمصالح أمتنا الأمريكية وليس مسألة إحسان وصدقة»، وكذلك أكَّد على هذه الإيديولوجيا الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر والذي تفرَّغ لمؤسسته الخيرية في 65 بلداً في العالم، وذلك في مواضع كثيرة من كتابه (قيمنا المعرضة للخطر).
لقد أكرم الله بلاد الحرمين بأنها تستطيع أن تُوظِّف ما يزيد عن مليار ونصف المليار رأس نووي سِلْمي، ترهب به خصومها وأعداءها –إن هي أرادت-، لكن هذا لا يتم بدون الإيديولوجيا المنبثقة من عقيدة وثقافة بلاد الحرمين –كحقٍّ سيادي لها-، والنتيجة المنطقية تكون بحتمية التلازم بين التوأمين العقيدة والسياسة، والعطاء في الوقت ذاته بهذا الاتجاه عبادة لله يدفع الله به البلاء والكربات عن المجتمع والدولة.
وكما أن العطاء الحكومي غير المؤدلج بعقيدة بلاد الحرمين انعكاساته ظاهرة للعيان فإن انكفاء المؤسسات الأهلية التطوعية وانحسار وجودها عن الشراكة في الساحات الدولية بمعالجة الفقر والإغاثة وتقديم العون والثقافة لا يقل عن سلبيات غياب الأدلجة في العطاء والمساعدات.
والحقيقة قد تقول: أن الانسحاب من هذا الحق السيادي في الوجود والمناورة يُعدُّ انتحاراً سياسياً لأي دولة تريد أن يكون لها سيادة وقوة في هذا العالم المتلاطم بصراع الأفكار والعقائد، وحينما لا تُصدِّر الدولة فكرها ومفاهيمها في الحقوق على سبيل المثال وتحمي ذلك من خلال مؤسساتها مثلاً، فعليها أن تقبل حتمية التمدد في فراغها، واجتياح الفكر الآخر وضغوطاته عن حقوق الإنسان والمرأة والطفل والأقليات وغير ذلك!.
وأخيراً.. هل يمكن للسعودية –بلاد الحرمين- استعادة مكتسباتها العالمية وتقوية ثقافتها عالمياً، والتبشير بعقيدتها بقوة، لأنه قدرها الذي لا حياد عنه؟ سؤال يطرحه الكثير في ظل إخفاقات مشهودة وملموسة مرَّت وكشفت أن أي تغييب للرسالة الإسلامية أو إضعاف للهوية العقدية تحت مسميات الوطنية ومزاعم الإرهاب ينعكس على مدى القوة السياسية والسيادية.
ولعل (عاصفة الحزم المباركة بمشيئة الله) خطوة في الاتجاه الصحيح بمواجهة القوة بالقوة الذاتية، وما يحتاج إليه الوطن أكثر هو مواجهة الفكر بالفكر بقوة، والثقافة بالثقافة، والعقيدة بالعقيدة بثقة واعتزاز، وعدم الهزيمة النفسية أمام حرب المصطلحات والفزَّاعات التي لا تنتهي.
فالإرهاب الأمريكي والإيراني الفكري والسياسي والعسكري يجب أن يجعلهما آخر من يتحدث عن دعاوى إرهاب العمل الخيري السعودي ومخرجاته، لا سيما مع براءته قانونياً، فقد انكشفت المخططات والمؤامرات، وما آلت إليه المنطقة من محاولات تفريغ قوتها الفكرية ومناعتها العقدية وحصانتها الجهادية تحت مزاعم الإرهاب أصبح كافٍ في كشف الحقيقة، وبقي أن تكون الإرادة السياسية القائمة على عقيدة الأمة هي المحرِّك وهي المسكِّن والفاعل بفاعلية.
الحاجة ماسة في الوقت الراهن أكثر من أي وقت مضى إلى مراجعاتٍ للعطاء والمساعدات (بتوجيهها)، وإلى وجود مؤسسات أهلية خيرية متنوعة ومتعددة متخصصة في العمل التطوعي الخارجي مستقلة عن الحكومة إلى حدٍّ كبير (قطاع ثالث) لتحقيق الغنم للدولة دون الغرم -إن وُجِد الأخير- كحال كثير من دول العالم مُساندة لأعمال الدولة ومتكاملة مع المعونات الحكومية ومنفذة لها، لتكون حزاماً أمنياً فكرياً على حدود الوطن بجنوبه وشماله وبداخل تلك الدول، بل وفي الداخل الإيراني كذلك مع أهل السنة، فاستثمار عنصر التطوع والمتطوعين في بلد العطاء وتعزيز الثقة بالمؤسسات غير الحكومية لصناعة الحزام الفكري هو ما يعزز أمن الحدود -بإذن الله- ويستعيد المكاسب المفقودة، فالدعم السابق المؤدلج من هذه المؤسسات قليله كثير في الأثر والتأثير في الساحات العالمية، وإيران لم تعمل في لبنان أو في اليمن مؤخراً سوى مؤسسات متخصصة مؤدلجة في كسب العواطف من خلال حفر آبار أو بناء مدارس أو إقامة حسينيات، ودعوة وتعليم ومِنَح دراسية ومستشفيات وإغاثات، واجتاحت هذه البلاد وغيرها وتمكَّنت بذلك من تحويل فئات من الزيدية إلى إثني عشرية شيعية قبل السياسة والمليشيات.
فهل نؤمن بعد هذا بأن كسب العقول والقلوب والأفكار هو المعركة الحقيقية؟؟ وهو الانتصار في الوقت ذاته!! وهل تكون الإرادة السياسية الحازمة فيصلاً في هذا الشأن؟؟ (تفاءلوا بالخير تجدوه).
كتبه/ محمد بن عبدالله السلومي
3 جمادى الآخرة 1436هـ
([1]) انظر عن مساعدات المملكة وإعاناتها الخارجية الرياض الاقتصادية على الرابط التالي: http://www.alriyadh.com/852115، وانظر عن ترتيب المملكة العربية السعودية وأنها الأولى عالمياً في العمل الإغاثي والمساعدات الإنسانية صحيفة عكاظ على الرابط التالي:
http://www.okaz.com.sa/new/mobile/20140226/Con20140226680166.htm
لا توجد تعليقات