Skip to main content

20_اقتضاء العلم العمل.. (تطوع عبدالله السلومي) أنموذجاً

عبد الله بن سليمان بن ناصر السلومي –رحمه الله واسكنه فسيح جناته- المتوفى هذا اليوم الثلاثاء 2 شعبان 1434هـ في محافظة الرس، ويُعدُّ من أعلام الدعوة والاحتساب ومن رموز التطوع، وأصحاب التجارب المبكرة للإغاثات والتبرعات في منطقة القصيم، وتحديداً في الرس والشنانة.

كُتبت عنه هذه الكلمات المرفقة كمقدمة لكتابٍ معنيٍ بالترجمة عنه وعن جهوده الخيرية –سوف يُنشر قريباً إن شاء الله-. وكاتب هذه المقدمة رائدٌ من رواد مجلسه – قهوته – على مدى أربعين عاماً عبَّر فيها مشكوراً بإيجاز عن المترجَم له وجهوده التطوعية والخيرية.

وننشر هذا التقديم تعريفاً بالمذكور وحثاً على المشاركة في الدعاء له والترحم عليه وأن يخلف على المسلمين خيراً. غفر الله له ورحمه.

تقديم الدكتور مصطفى بكري السيد([1])

اقتضاء العلم العمل (تطوع عبدالله السلومي أنموذجاً)

«لم يَعتل منابر الفضائيات أكثرها وجعجعة بعضها، قبلها كان وبعدها سيظل, وعندما تَمِل أو تُمل, ولن يبقى منها إلا رجع الصدى, ورماد معارك الوهم, ومتكلمو الفضائيات جُلَّهم تدثروا بالأكاديمية, وتجلببوا بالسلفية وارتدوا بجاد الحداثة وبرد الديمقراطية كانت الأرض يبابا( 2) قبلهم ، ثم انتهت سرابا بقيعة يحسبها الظمآن معرفة وهي لا تعدو أن تكون ما يطلبه الممولون, ليُجلدَ به السامعون , وتبقى الأمة تنتظر غيث القرآن وعطاءات السنة , فلا تجد ذلك إلا نادراً مع كثرة القراء والكتب , وتوافر المعرفة وشبكة المعلومات (الانترنت).

*****

أبو سليمان عبدالله بن سليمان السلومي, الرجل الأمة, الرجل المؤسسة، موظفوه قلبه وعقله وإسلامه, من خلالهم يُقدِّم للناس الحق والحقيقة مبرأة من الزيف, منزهة عن الحيف, مجلسه كتاب مفتوح مصدره الكتاب والسنة, وجهده متصل لخدمة مصالح الأمة, الدليل قبلته, والمسلمون الفاعلون قبيلته, بلا حدود، كان معجباً و(عاملاً) بالمصطلح النبوي (نزَّاع القبائل), أي الناس الذين لا رابط بينهم إلا عقيدتهم , ترك الثرثرة على المصطلحات, وقِبَلَ الجد وجهه ولّى، ولكلٍ وجهة هو مُوَلاَّها (وكلٌ ميسر لما خلق له)( 3).

على الأرملة يَسعى , وللمدين يفزع, ولطالب الزواج يُصغِى , ودَّ ألاّ يبقى عزب أو عزباء, الزواج حصن المجتمع كان يرى , وللسعي لتحقيق ذلك كان يعمل, يندفع الناس إلى مجلسه لدوافع شتى, يجدون من لدنه وجهاً مرحبا , وحديثاً محببا , (إن الكلام جانبٌ من القِرى) ، لا ينقلب زائره إلى أهله إلا بزاد من نقد بناء , وطعام بسيط لا ينقطع يقدمه للناس , أو صدمة فكرية تعيده إلى الجادة , لا ينقطع عن الحرمين الشريفين حاجاً أو معتمراً , وفي رحلاته تلك يذكرني برحلة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله إلى الحج التي قطع فيها أفريقيا من الغرب إلى الشرق لا يترك بلداً يتوقف فيه إلا هطلت عليه –بفضل الله ثم علمه- سحائب المعرفة , كذلك أبو سليمان يتحف الركب من الشنانة إلى الحرمين ذهاباً وجيئة, بآي من القرءان وقبسات من السنة وأقوال السلف, لِتَغْدُوَ رحلاته دورات تربوية , وفصولاً دراسية , يعود منها الرجل فلا يدري أكان الحج والعمرة أكبر الزاد، أم أخلاق الرجال أكثر ما استفاد ، أم العلم بالأنساك والدين أعظم ما تحصل عليه.

جاءه مرة صاحب سيارة (جيمس) قُبيل الحج طالبا منه إن كان يعرف حجاجاً من المواطنين كي يذهب بهم إلى الحج بأجرة معلومة , قال صاحب السيارة (الجيمس) كلمني بعض المتعاقدين, ولكن أنا أريد من المواطنين.

قال أبو سليمان: « إن بعض المتعاقدين قد يكونون خيراً منا», إن هذا الأفق الرحب قد يُفتقد عند رجال هم جبال من المعرفة, ولكن غُطِّيت قممهم بالتعصب أحياناً .

يَدعو دائماً إلى الطعام فيُجاب , ويُدعَى من أقل الناس شأناً فيُجيب, يجعل المائدة جسراً إلى التعارف, ويجعل الحدث بعدها هدفه وغايته, فلا ينتهي مجلسه بغير غُرر الفوائد, وغزير العوائد, دون أن تغيب النكات والطرائف عن مجلسه وجلسائه يسمعها برحابة صدر, ويُفسح لها ولرواتها حتى لا يكون مجلسه جدٌ مبالغٌ فيه لا تطيقه بعض النفوس.

*****

وقبل أن ينتقل إلى بيت بُني من الإسمنت المسلح كان يقيم في بيت من الطين أوشك أن يكون مثابةً للناس في حين كان بعض المنتسبين للعلم الشرعي من قضاة وأمثالهم يتطاولون في البنيان , ويتقاصرون في الفضل ونشر العلم والرأفة بالناس لاسيما العامة والخاصة وما بينهما , هؤلاء وأولئك يَؤمُّون بيت الطين بحثاً عن طمأنينة لم يجدوها في بيوت أذن الله أن تعمر بالحجر , ولكن قلوب سكانها أنكرتهم وأنكروها أحياناً, فكانت أقدامهم تحملهم رغماً عن إرادتهم إلى بيت أبي سليمان يبحثون عن سعادة مفقودة, لأنهم كانوا يحسبون السعادة امتلاكا , أما أبو سليمان فيَعُدها انعتاقاً  ولم يكن قاصدو أبي سليمان يبحثون عن طمأنينة القلب فحسب , بل عن غذاء العقل أيضاً فهم يشعرون دون إرادة أن كلامه بات مرجع عقولهم ومصدر معرفتهم, لقد سمعت الكثيرين من رواد مجلسه يحملون رؤيته ويَحلمون بتحقيق مشروعه الذي يقوم على الثقة المطلقة بالإسلام وانتصاره حتى لو كانت الإمكانات المادية متواضعة , وكان سلوكه خير شاهد على ذلك , وكانت النماذج المثلى للأب وللرجل التي يحكيها بمثابة أطواق النجاة لبعض الآباء والرجال الذين جعلوا أبا سليمان يستشهد بقوله تعالى: ( وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) سورة النمل الآية (33).

مدللاً على تراجع دور الآباء والرجال والأزواج، مبيناً غربتهم وعجزهم أمام النساء والأولاد والمجتمع, ولأنه يراهم ضحايا ثقافة خُلّب(4 ), فقد عمل على ضخ ثقافة {…خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ…} سورة مريم من الآية (12), و(المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)(5 ).

في بيت الطين وفي مجلس استقبال الضيوف، وهو ما يسمى القهوة حيث (القهوة الطينية) احتفى الشيخ بكل مدارس الدعوة من رسميين ومتطوعين وما بينهما , يسمع للجميع ويسمح لكل الرؤى, ولكنه يُعقِّب بحزم في المضمون، ولين في الأسلوب، ويأبى أن يكون شاهداً محايداً , بل شريكاً, واضعاً سلامة المعتقد وأمن الناس الفكري فوق كل مطلب, فعل ذلك مبكراً, ولم يقله تزلفا أو تنطعاً.

*****

– أحسبه ولا أزكي على الله أحدا – لم يسع لأي مطلب شخصي , أو مكسب مادي أو تجمع حزبي , حزبه المسلمون أنِّى كانوا وأين حلُّوا , مشروعه الإنسان الذي يطمع أن يبلغه كلمة التوحيد.

 ولِمَا كان يترامى إلى سمعه من تراجع في العفة والفضيلة, فقد رأى أن الزواج هو مقبرة الفجور , وطريق العبور إلى عالم يمنح الاستقرار النفسي الذي يقوم عليه كل استقرار , شجع على الزواج مادياً ومعنوياً , زوّج الكثير وتزوج امرأتين فقط.

لم يثرثر عن الفضيلة بِمَبْعدةٍ عن أهم منابعها وهو الزواج , بوجهٍ طليقٍ يَلقَى به مرتاديه, لم ير العبوس قمة الدعوة كما هو معروف عن بعض الناس –وفقهم الله إلى الخير- ولم يُقبِل في مجلسه على الكبار فقط , بل يُداعب الصغار , ويسأل عن زواجهم بوصفه مستَقرَ أنفسهم ومطمأن قلوبهم , ويأخذ الباكستاني والبنغالي وغيرهم من العرب والعجم في مجلسه حظاً من الاهتمام لا يقل عن حظ أي مواطن أو مقيم, لم يتْل الآيات ويرفع الرايات ويتعثر بالسلوك بل أوشك أن يكون (خلقَه القرآن) , أما إذا اقتضى حكم شرعي تبَيين آية فنجده يتلوها كاملة دون تعثر أو تلعثم أو خطأ , وكذلك صنيعه مع الحديث الشريف , ولا أنسى مرة ذكرتُ حديثاً أمام أحد أبنائه العلماء , فقال ابنه العالم: ما مصدر هذا الحديث؟ فقلت سمعته من الألباني رحمه الله. فهَمَّ أن يكتبه فقال أبو سليمان تجده في رياض الصالحين! ، أما التسبيح والذكر فكان ديدنه , ما شاء الله , ولا حول ولا قوة إلا بالله, مطرنا بفضل الله ورحمته , يقولها لمن زاره على غير توقع.

لا ضير أن اعترف بأُبوَّتهِ الفكرية , بل ذلك شرف لي , ولئن كانت أُبوَّة النسب رابطة أبنائه به , فأنا من أبنائه فكراً وسلوكاً.

*****

وفي ختام مقالتي عن شيخي وأبي الروحي أبي سليمان أقول : إن هذه الشخصية تدل على عظمة الإسلام، وقدرته غير المحدودة على صنع رجل بمكان ومكانة أبي سليمان، فهو لم يصل إلى ما وصل إليه بمالِ جمعه، أو نسبٍ رفعه عن بقية الناس لقد كان من أوسطهم نسبا وأقلهم مالاً، ولكن الإيمان الذي وقر في قلبه ، والرؤية التي زرعها فيه أبوه- رحمه الله- جعلاه في صميم اهتمام المجتمع ، لأن التدين أهم صفة يتميز بها المجتمع السعودي ، وأكثر صفة يُجمع عليها السعوديون ، ولاسيما عندما تكون من الناس وإليهم كما مثَّلها أبو سليمان، دون تظهير إعلامي وعندما وجد رواد قهوته غذاء قلوبهم وقوام عقولهم في كلماته التي كانت تطرق مسامعهم لتستقر في أعماق أفئدتهم ، هذا ما كنت اشعر به في كل زيارة للقهوة – أجد الكلام طازجاً وصادقاً- ولعل مما رسّخ منزلته في نفوس محبيه وعارفيه ، أنهم لم يشعروا أنه يعمل لذاته أو يصرف الوجوه لشخصه، بل وجدوا النص دون الشخص والعام وليس الخاص ، والمؤبد دون المؤقت هدفه هذه الأمور لأن إيمانه بالله وراء حَراكه كله.

لم يكن أبو سليمان مُطلعاً على مصطلحات مثل المجتمع المدني ، والعمل المؤسسي والرأي العام ، والتنسيق مع الإعلام، ولكنه يحقق ذلك جله دون أن تكون أسماء بلا مسمى ، ولعل الدليل الأبرز على ما أقول، أن تجد لقهوته في بلدة صغيرة حضوراً فاعلاً وعملياً ، وحضاريةً لا تجدها لمثيلاتها في المدن الكبرى والمتوسطة وذلك كما قلت يعكس عظمة التفاعل بين المسلم والنص الشرعي، لتوظيف ذلك في خدمة المجتمع وقضاياه، لا لإثارة الجدل والنقاش حول قضايا تؤخر ولا تقدم، وتفرق ولا تجمع، وإذا كان ما سبق يعكس عنوان المقال فإن أعمال الشيخ في الوقت ذاته تعكس أنموذجاً للتطوع في زمن غابت فيه مؤسسات المجتمع الأهلي التطوعية فكان الشيخ وأمثاله نماذج حية عملية في التكامل مع مؤسسات الدولة.

أمدّ الله بعمر الشيخ على طاعته، ومتعه الله بسمعه وبصره وقواته ، وبارك في ذريته وأحفاده ، ورزق المسلمين أمثاله ، وآخر دعواي أن الحمدلله رب العالمين وصلى على سيدنا محمد وآله أجمعين» انتهى.

——–

(1) كاتب هذا الموضوع هو أبو محمد مصطفى بكري السيد اللبناني بلداً (القصيمي موطناً)  ، وهو من رواد قهوة أبي سليمان ما يزيد عن أربعين (40) عاماً، وهو أستاذ سابق في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ،  وأستاذ اللغة والأدب في جامعة القصيم بعد ذلك ، وقد كتب هذا بتاريخ4- 7– 1431هـ، الموافق 14/ 6 / 2010. وذلك مبادرةً ووفاء منه للشيخ عبدالله السلومي ، وكتبها بعاطفته الجياشة وأسلوبه الأدبي الرفيع .

(2) اليباب بمعنى الخراب – ارض يباب : أرض خراب.

(3 ) أخرجه مسلم في صحيحه، ج 2، ص 299، ورد في كتاب شرح الطحاوية – طبعة دار السلام، باب الميثاق الذي أخذه الله تعالى، ج 1، ص  248.

(4) الخُلَّـــب : السحـــاب غير الممطــر وهــو كنايـة عن ضحالتهــم الثقافيــة  (البــرق الخُلَّب الــذي لا غيث فيـــه كأنه خادع وميض) لسان العرب   ج 2 ص  1220.

(5) أخرجه  مسلم في صححيه ، كتاب القدر ، حديث رقم (2664) ص 1069.

تصفح الرسالة pdf

لا توجد تعليقات

بريدك الالكتروني لن يتم نشره


الاشتراك في

القائمة البريدية

اكتب بريدك الالكتروني واضغط اشتراك ليصلك كل جديد المركز

تصميم وتطوير SM4IT