Skip to main content

هل الغرب يعيش أزمة حضارة وتحضر؟   

(تصفح PDF نسخة الجوال)

(تصفح PDF نسخة الكمبيوتر)

يُواجه العقل العادي فضلاً عن عقول المفكرين في العصر الحاضر حالات من الإرباك الذهني والمعرفي تجاه الحضارة المعاصرة ومعطياتها الصارخة المتناقضة، حتى أصبحت القناعات المسبقة حول مثالية الحضارة الغربية وحتميتها تتهاوى وتتكسر، كما أن هداياها الجميلة تذبل أو تحترق، فالحالات المَرَضِية والمستجدات الدولية أضحت تزيد من الإرباك وتُعمِّق التساؤلات في مجالات متعددة.

ففي (العلاقات الدولية) -على سبيل المثال- ازدادت الحروب والصراعات، وطغت شريعة الغاب والقوة، وتضاعفت عدوانية الأقوياء على غيرهم بعد تأسيس هيئة الأمم المتحدة 1945م، ومن ذلك حروب الحصار والإبادة في البوسنة والهرسك على مدى أربع سنوات (1992-1995م)، وفيها كان استشهاد (300) ألف مسلم وتشريد مئات الآلاف، وإقامة معسكرات اغتصاب النساء المسلمات على أيدي الصرب النصارى، وهو ما عبَّرت عن بعضه المراسلة البريطانية الشهيرة كريستيان أمانبور Christiane Amanpour لقناة CNN الأمريكية بقولها: إنها حروب قورسطية (القرون الوسطى الهمجية الوحشية)؛ حيث القتل والحصار والتجويع والاغتصاب وهدم مئات المساجد وآلاف المساكن وإحراق المكتبات، وهو ما يعكس قدراً هائلاً من التعصب والتطرف والكراهية وعدم التسامح للحضارة المعاصرة!

وكذلك ما حدث في صراعات كوسوفا وحروبها (1998-1999م)، ومن بعدها حرب تجويع العراق وحصاره (1990-2003م)، ثم حروب حضارة القرن الواحد والعشرين؛ حيث حروب الاحتلال الأمريكي للعراق والإبادة الجماعية التي راح ضحيتها في السابق واللاحق أكثر من مليوني قتيل، وملايين المشردين، لا سيما عند تسليم العراق للطائفة الشيعية مع حروب احتلاله إلى الخروج منه (2003-2011م)، وما حدث في سوريا (2011-2023م) لا يقل فظاعةً ووحشية وإحصاءات من الدمار عن أحداث العراق.

ويضاف إلى هذا عدوان التحالف الدولي على أفغانستان والاحتلال الأمريكي (2001-2021م) والذي وصل المعلن عن قتلاه (176) ألف شهيد في أفغانستان 46319 مدنياً و 69095 عسكرياً وشرطياً، وما لا يقل عن 52893 مقاتلاً من أفغانستان، وفقا لتقرير مشروع تكاليف الحرب في جامعة براون الأمريكية([1])، إضافة إلى ملايين المهجرين والمشردين، وكانت الحرب بشتى أنواع أسلحة الدمار الشامل!

وتأتي الحرب الأوكرانية الروسية (2022-2024م)، ثم حرب الإبادة في غزة فلسطين (2023-2024م)، بعدد مجازرها التي بلغت (3,584) مجزرة ارتكبها جيش الاحتلال الصهيوني خلال 345 يوماً فقط بضحايا وصلت إلى (51.206) شهيداً ومفقودين، و(95,337) جريحاً ومُصاباً([2]). لتملأ هذه الأحداث الكأس، وتفيض بالوحشية العدوانية، وتُربك المفاهيم الإنسانية في العلاقات الدولية، وتُشكك في التحضر والحضارة المعاصرة.

وصَحِبَ هذا وذاك ما يُسمى (حق الفيتو) وهو ما يكشف أكثر عن حقيقة الحضارة المعاصرة، ومن ذلك استمرارية تفرد الدول الخمس الكبرى (أمريكا وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا) بهذا الحق، لتسقط العدالة الدولية في كل أزمة من أزمات العالم، ولتكون هذه الحضارة برموزها وقوانينها من الأمم المتحدة ومجلس الأمن والهيئات المعنية بالحقوق في غالب أحوالها مصدراً من مصادر العنف والصراع، وما يترتب على حق الفيتو الظالم من التخلف الحضاري وعدم العدالة، حينما أسهمت هذه الهيئات الأممية بصورةٍ مباشرة وغير مباشرة بنقل الحروب من داخل أوروبا والغرب إلى دول العالم الثالث، وتحديداً إلى دول العالم الإسلامي بلداً بعد آخر.

وفي جانب مؤشرات سقوط (الاقتصاد العالمي) وإرباكاته في هذه الحضارة المعاصرة يتأكد التناقض الصارخ بين الناتج العالمي السنوي (100) تريليون دولار، بينما ديون العالم الرأسمالي تصل إلى (350) تريليون دولار، لينتظر العالم الكارثة بعد الأخرى من هذا الاقتصاد الأحادي الرقمي والربوي المهيمن([3])!!

وعلى مستوى (العلاقات الأسرية) صَاحَبَ هذه الحضارة المعاصرة فراغ قِيَمي كبير أدى إلى كثيرٍ من التفكك الأسري والاجتماعي قوام الدول وسر بقائها وتفوقها، ثم جاء بعده فرض ثقافة الجندر والشذوذ (LGBTQ) على دول العالم، مع الولاء الدولي والبراء من أجل هذا الشذوذ! لدرجة أن الأمم المتحدة عدَّت هذا الانحراف السلوكي والأخلاقي من حقوق الإنسان! حينما تم اعتماد المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان (OHCHR) لهذا القرار بالأغلبية، ووُصف بأنه قرار تاريخي! وفيه: «تلتزم المفوضية السامية لحقوق الإنسان بالعمل مع الدول والمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان والمجتمع المدني في جميع أنحاء العالم، للمساعدة في إبطال القوانين التي تُجرِّم المثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي…»([4]).

ويأتي (العلم التجريبي) Experimental science في الغرب عاملاً قوياً في إسقاط التحضر والحضارية، فقد أُقحم العِلم بكل شيء دون أدنى ضوابط أخلاقية، أو قيم إنسانية سماوية، وأصبح هذا العلم التجريبي الطائش والجامح من وسائل الإلحاد وعدم الإيمان بالغيبيات الميتافيزيقيا Metaphysics وما يترتب على هذا من الانفلات الفكري والأخلاقي.

ثم كانت صناعة الإنسان الآلي humaniod robot ليكون بديلاً مُنتهِكاً لحق الجنس الإنساني، وربما لأخذ مكان العنصر الأبيض الغربي الأنجلو سكسوني بعد ظواهر غياب النمو السكاني الديمغرافي لهذا الجنس، ويُضاف إلى هذا تسخير العلم في صناعة أسلحة الدمار الشامل المتعددة والمتنوعة البيولوجية الجرثومية والنووية وغيرها، وتكررت جنايات هذا العلم التجريبي بحق الغذاء والدواء؛ حيث صناعاتهما لا تلتزم بالمعايير الأخلاقية، فالغذاء والدواء والتعديل الجيني واللقاحات في أحيانٍ كثيرة أصبحت من أسباب بعض الأمراض العالمية! بل إن هذا العلم اُستخدم في تغيير خلق الله، وما يترتب على هذا من فساد الحياة البشرية وفطرتها، وتشويه الطبيعة والحياة كلها.   

وتتحطم مثاليات أو صنميات الحضارة الغربية في معاقلها مع (انتهاك الحريات) بقوة، حينما فرض النظام العالمي الرقابة الصارمة على مواقع التواصل الاجتماعي، للحيلولة دون نقل بعض جرائم الإبادة والتدمير في فلسطين على سبيل المثال، فحادثة منصة تيليجرام التي بلغ مشتركوها حوالي مليون مشترك بصاحبها الروسي الفرنسي بافيل دوروف تُعدُّ مؤشراً كبيراً لعهدٍ جديد من الحريات، حينما صدرت مذكرة اعتقال وتوجيه اتهام من الحكومة الفرنسية ضدّ دوروف الذي كان قد حصل على جنسيتها منذ مدّة، وهو ما يعكس أن الحرية الحقيقية أصبحت محاصرة ومضَيّقاً عليها في الغرب الذي يدَّعي حماية الحريات وتمكين الديمقراطية، والواقع الحقيقي أنّ الديمقراطية والحضارة الغربية في أزمة؛ لأنّها بلا حرية حقيقية، والأمثلة في هذا كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.

قراءات ومؤشرات أجنبية:   

أهدت المدنية الغربية وأعطت بحضارتها المادية المعاصرة الكثير من النافع المفيد، لكنها في المقابل أخذت وسلبت أكثر حينما تكبَّرت على قِيَم السماء، واستباحت حقوق البشرية وحضاراتها وقِيَمها وحياتها وتنوعها الديني والثقافي، وقد أسهمت بعض القراءات والدراسات الأجنبية بتوضيح حقيقة هذا الإرباك المعرفي والأخلاقي، لا سيما أن بعض هذه القراءات عن الغرب المادي المنافس بمدنيته جاءت على وجه النقد في الجذور والقشور لحضارته وإرباكاتها العالمية.

ومن ذلك بعض الأفكار والرؤى من المنصفين حول الحضارة الغربية المعاصرة مما يكشف كثيراً عن الفروقات الحضارية، ومنها -على سبيل المثال- رؤية أرنولد توينبي Arnold Toynbee -الذي يُعدُّ من مؤرخي الحضارات المنصفين بكثيرٍ من أفكاره- حول العلاقة القوية بين الدين والحضارة، وأن الحضارة الغربية في طريق الأفول لفقدان المؤهلات العامة للبقاء، وأن الحضارة الحقة من صنع الشعوب دون الأباطرة والحكومات. وأن الاكتشافات العلمية والصناعات المادية ليست أدلة على التحضر والارتقاء، فالارتقاء لدى توينبي هو ما يُسمِّيه (التسامي) الذي يرنو إلى الجانب الروحي وما يتضمنه من القِيَم والدين بأكثر من التطور المادي، بل إن توينبي يرى أن انتشار الإسلام وسيادة حضاريته تحقَّق بفعل خصائصه الذاتية، خلافاً للحضارات الأخرى التي قامت على القوة العسكرية والمادية([5]).

وهذه الرؤية للمؤرخ توينبي تتوافق بقواسم مشتركة مع المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت Will Durant صاحب كتاب (قصة الحضارة)، حيث يرى الأخير أن المدنية والحضارة لا جنسية لها، وليست حكراً على جنس دون آخر، وأن المدنيات -في الغالب بأديانها السماوية- مما تصنع الشعوب وحضاراتها وليس العكس.

ومن القواسم المشتركة في الرؤى الحضارية بين باتريك بوكانن صاحب كتاب (موت الغرب) وبين ديورانت أن الأخير يقول عن الحضارة المعاصرة: «يجب ألا يزعجنا كثيراً احتمال موت حضارتنا [الغربية] مثلما ماتت أية حضارة أخرى… وربما كان من المرغوب فيه أن تتخذ الحضارة أشكالاً جديدة، وأن تكون للحضارات والمراكز الجديدة دورتها». وقوله كذلك: «الحضارة العظيمة لا تموت كلية، فقد بقيت المنجزات العظيمة بعد كل تقلبات الدول الصاعدة والساقطة»([6]). وهذا القول مما يتماثل مع ما وُصفت فيه حضارة الإسلام العظيمة، التي لا تموت، وقد بقيت أربعة عشر قرناً من الزمن، ولا زالت قادرةً على صناعة دوراتٍ سيادية حضارية قوية أخرى بما تمتلكه من رصيد الثوابت السماوية الحضارية.  

ويؤكد هذا الإرباك والتناقض حول ما يُسمى حضارة القرن الواحد والعشرين ما كَتَبه الباحث الأمريكي الأستاذ الدكتور وائل حلاق، عند كتابته عن حقيقة (الدولة الحديثة) والحداثة وما فيها من خلل أخلاقي وحضاري، مقارنةً بمفهوم الدولة الإسلامية وما فيها من تشريعات سماوية وثوابت تتسم بالتقدم الأخلاقي والحضاري، وذلك في عموم كتابه (الدولة المستحيلة)، الذي أكد فيه استحالة أن تقود الدولة الحديثة غير الأخلاقية الدولة الإسلامية الأخلاقية.   

فهل تهاوت بما سبق من أحداث وأفكار وتقديس لغير المُقدس حضارة القرن الواحد والعشرين لدى الغرب؟ ثم هل انكشفت حقيقة الحريات والديمقراطيات وحقوق الإنسان وكرامته، والسِلم الاجتماعي والدولي، بل والحقوق الصحيحة للأقليات والتعدديات الثقافية؟ وهل أصبح الغرب يعيش بالفعل أزمة حياة، فضلاً عن التحضر والحضارة مع نفسه ومع غيره؟

إن كل هذا التناقض والإرباك المعاصر، إضافةً إلى نكد الحياة وضَنَكِّها مما يبعث على القراءة والإكثار من البحوث والكتابات بلغة ما يُسمى (الاستغراب). وما طرحه بعض المفكرين من مسلمين وغير مسلمين حول المسألة الحضارية يستوجب بقوة العمل على دعم الدراسات والأبحاث العلمية المعنية بالمقارنات والمقاربات بين الحضارات وجدليتها، وبين أسئلة الحضارة وإجاباتها، فالمعرفة والتشخيص أساسٌ للمناعة والعلاج.    

 

_________________________________

([1]) تقرير جامعة براون الأمريكية، بعنوان: (التكاليف البشرية والميزانية حتى الآن للحرب الأمريكية في أفغانستان، 2001-2022)، الرابط التالي: http://tinyurl.com/2p8hh2ue.   

([2]) وكالة الرأي الفلسطينية للإعلام، بعنوان: (المكتب الإعلامي الحكومي ينشر تحديثاً لأهم إحصائيات حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال “الإسرائيلي” على قطاع غزة لليوم 345)، 15 سبتمبر 2024م، الرابط التالي: https://tinyurl.com/mupj542v.

([3]) اندبندنت عربية، بعنوان: (ديون العالم تتخطى الـ300 تريليون دولار وسط إفلاسات مرتقبة)، بتاريخ 15 سبتمبر 2022م، الرابط التالي: https://bit.ly/40w4nWT، انظر كذلك: نفس المرجع، مقال بعنوان: (الاقتصاد العالمي يتخطى عتبة الـ 100 تريليون دولار لأول مرة)،، بتاريخ 28 ديسمبر 2022م، الرابط التالي:  .https://bit.ly/3DI2BrZ

([4]) المفوضية السامية لحقوق الإنسان وحقوق LGBTQ، الرابط التالي: https://www.ohchr.org/ar/sexual-orientation-and-gender-identity.

([5]) بتصرف فاطمة حافظ، مقال بعنوان: (تاريخ الحضارات والأديان لدى أرنولد توينبي)، موقع إسلام أون لاين، بتاريخ 7 صفر 1445هـ، الرابط التالي:

https://tinyurl.com/bdhkwt3r.

([6]) انظر النقولات عن ديورانت: عثمان حسن، مقال بعنوان: (ول ديورانت الحضارة لا تموت، ويل ديورانت قمم خالدة)، صحيفة الخليج، بتاريخ 8 ديسمبر 2018م، الرابط التالي: https://tinyurl.com/3fh95n22.

 

د. محمد بن عبدالله السلومي
باحث في التاريخ ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
[email protected]

 

المصدر: مجلة البيان

لا توجد تعليقات

بريدك الالكتروني لن يتم نشره


الاشتراك في

القائمة البريدية

اكتب بريدك الالكتروني واضغط اشتراك ليصلك كل جديد المركز

تصميم وتطوير SM4IT