Skip to main content

أهداف المستشرقين الألمان ودوافعهم من تحقيق التراث الإسلامي

لعل مما يهم القارئ حول الاستشراق معرفة أهداف هذا الاستشراق الغربي ودوافعه تجاه مخطوطات التراث العربي الإسلامي، لا سيما أنه كان يتمتع بالقوة الرسمية والدعم الكبير مع بداية القرن التاسع عشر الميلادي، الذي وصل أوْجَه وتطوره في ألمانيا بصورة مُنظَّمة وقوية مع بداية القرن العشرين الميلادي (1910م) وهي حقبة تزامنت وسبقت وتلت الحملات الصليبية (490-670هـ/ 1096-1272م) للعالم العربي والإسلامي واحتلاله بما يسمى حقبة (الاستعمار) من القرن السابع عشر إلى منتصف القرن العشرين الميلادي تقريباً، وما صحب أو تلا عموم حالات هذا الاحتلال الغربي من فشل استمرار السيطرة على بلدان العالم العربي والإسلامي المُحتَل.

ويبدو أن الاستشراق المتقدم في مرحلته الأولى ناتج في أصله لمعالجة بعض الهزيمة النفسية التي واجهها الغرب جرَّاء ما رأى من قوة العرب المسلمين ومناعتهم وحصانتهم العقدية، وتنوع تراثهم وقوة علومهم، وإيمانهم بعقيدة موحِّدة ولغة واحدة، لا سيما حول تفوق الحالة التاريخية لمسلمي الغرب الأوروبي كحال الأندلس وصقلية، ومسلمي شرق أوروبا، حيث البلقان وأقاليمه! ويمكن أن يكون من أبرز نتائج عموم الاستشراق المبكر في مرحلته الأولى قيام الحملات الصليبية المتتابعة على العالم الإسلامي (490-670هـ/ 1096-1272م).

ومن أهداف الاستشراق الحاجة العلمية والمعرفية والحضارية لدى الغرب تجاه تاريخ علوم المسلمين وتفوقهم التاريخي، كما قال لوبون في أكثر من موضع في كتابه عن حضارة العرب المسلمين.

وعن موضوع الاستشراق المتأخر الذي يؤرخ له بأنه كان عام (1910م) والذي ترتب عليه احتلال كثير من أقاليم العالم العربي والإسلامي وإسقاط الدولة العثمانية واقتسام ممالكها وأقاليمها، ويُشير أحد الباحثين إلى أن هذا الاستشراق وُلد بسبب المنافسة الحضارية بين حضارة الإسلام وحياة الغرب العادية أو المتخلفة الموصوفة بالعصور الوسطى المُظلمة آنذاك حينما كان عطاء المسلمين العلمي وثباتهم في معركة الصراع التاريخي والحضاري وعدم ذوبانهم أو تخليهم عن دينهم، وذلك بقوله: «تأسس الاستشراق بوصفه مؤسسة فكرية بعد أن فشلت الحروب الصليبية، إذْ تعززت قناعة رجال السياسة والكنيسة في الغرب، بأن العالم الإسلامي لا يمكن إخضاعه بالقوة، فلجؤوا إلى أسلوب دراسة أحوال المسلمين، لتسهل السيطرة عليهم، واحتواء الإسلام بوصفه ديناً وعقيدة، واختراق العالم الإسلامي، ومن ثم إحكام السيطرة عليه، فكان المشروع الاستشراقي نابعاً من علاقة بين الكنيسة والسلطة في الغرب، فتأسست المعاهد، ومراكز الدراسات، والبحوث لتشكل خلايا متشابكة، لتخدم غرضاً واحداً هو ضمان استمرار سيطرة الغرب على الشرق»([1]). ويتضح من هذا أن أبرز الأهداف كانت: الإفادة من تراثنا العلمي التطبيقي لتطوير حضارتهم، ودراسة تراث الدين الإسلامي لاكتشاف منافذ السيطرة والتأثير العلمية والعسكرية، إضاقةً إلى محاولة الهدم وزرع بذور التشكيك في أصول التراث وجذوره.

ومما يؤكد رغبة الغرب عموماً بالتحضر والسير على خطى حضارة الإسلام ما كتبه عرفان حول طُرق ووسائل انتقال العلوم الإسلامية إلى الغرب بقوله نقلاً عن سزكين: «يؤكد الأستاذ فؤاد سزكين أن تطوُّرَ الغرب تحقَّقَ عبر ثلاث طرق، ويرى أن أوَّلَ هذه الطرق الثلاث هي مؤلفات الفِكرِ والثقافة التي انتقلت إلى أوروبا عبر إسبانيا (الأندلس)، وينظر إلى هذا التطوُّرِ على أنه يطابق تماماً ذلك التطوُّر الذي حققه المسلمون من خلال ترجمة الكتب عن الهنود واليونانيين القدامى والسريانيين وإثراء حضارتهم بها، ويرى أن الطريق الثاني كان عبر الترجمات التي جرت في صقلية، أما الطريق الثالث فيشير إلى أنه يمر عبر الترجمات التي نُقلت عن تبريز وأرضروم وطرابزون وإسطنبول.

ويوضح الأستاذ فؤاد أن الترجمات التي نقلها الغربيون عن العالم الإسلامي كانت في حقيقة الأمر كبيرةً بقدر يسمح بإنشاء حضارة جديدة بالكامل في أوروبا، مشيراً إلى أنه لم يكن هناك طرق أخرى لنهوض أوروبا، ويرى أنه لا يمكن إنكار أهمية التعارف والاتصال المباشر الذي تمَّ عقبَ الحملات الصليبية كنوع آخر من أنواع انتقال المعرفة إلى جانب الطُرق التي ذكرناها آنفاً، ويُشدِّدُ على أهمية التواصل الذي جرى بين الإيطاليين وسلاجقة سورية والأناضول على وجه التحديد»([2])، بل إن الدكتور عرفان بكتابه الوثائقي عن سزكين المكتشف للكنوز العربية الإسلامية ينقل اقتباسات كثيرة ومتعددة وبلغة وثائقية حول أصل حضارة الغرب المعاصرة وآليات قيامها على تراث العرب والإسلام وحضارته كما هي تقريرات غوستاف لوبون وزيغريد هونكه.

ولا تخلو أهداف هذا الاستشراق مع مخطوطات التراث من محاولة معرفة سر قوة الدين الإسلامي وأتباعه، وسر جاذبية دين الإسلام آنذاك، حيث كان اعتناق الدين الإسلامي من النصارى الإسبان والبرتغاليين بالجنوب الأوروبي بصورةٍ خاصة في غرب أوروبا (الأندلس)، ثم نهضتهم العلمية التي كانت قبلة علمية لدول الشمال الأوروبي حينذاك، كما كان حضور الإسلام في شرق أوروبا كذلك، حينما كانت نهضة دول وأقاليم (البلقان) زمن فتوحات الدولة العثمانية إضافةً إلى صقلية وإيطاليا.

وكتب محمود المقداد عن ما يراه حول هدف جمع الغربيين المستشرقين أو سرقتهم للمخطوطات فيما بعد عصور نهضة المسلمين من معظم العواصم الحضارية للعالم العربي، ومما قال: «هكذا حاول الفرنسيون أن يتعرفوا على أخلاق العرب والشرقيين، وعاداتهم وتقاليدهم، وما لهم من معارف وثقافات… ولهذا اتجه الغربيون عامة، والفرنسيون خاصة إلى جمع [سرقة] أعداد من المخطوطات. وقد جُنِّد لهذا الغرض رهبان ومبشرون وتجار وجواسيس، ودبلوماسيون وسفراء في العالم العربي والإسلامي، ورحَّالة وسوّاح ومستعربون، كُلِّفوا خصيصاً بهذا العمل»([3]).

ومن الأهداف الواضحة الرغبة الظاهرة للاستفادة من علوم المسلمين، لا سيما زمن جهود بعض المستشرقين في المرحلة الأولى القديمة من الاستشراق. ومما دوَّن التاريخ عن بعضهم حول تنوع أهدافهم وأنها لم تكن حصرياً لتشويه التراث الإسلامي، حيث فيما أحسب ومما وجدت ‏في كثير من البحوث حول نقل العلوم من الشرق إلى الغرب، أن جهد الاستشراق ‏قديمِه وحديثِه أراد توفير أدوات سحب هذه العلوم -خصوصا التجريبية- إلى الغرب والاستفادة منها، ولذلك نلاحظ أنّ أعظم أساطين هذه الحركة قاموا فعلاً بذلك وهم على سبيل المثال :  البابا سلفستر الثاني (946-1003م) الذي يقال أنه أول المستشرقين، وهو الذي دَرَسَ في قرطبة وجامعة القرويين وأجاد العربية ونقل أرقامها إلى أوروبا، وهو صاحب أوسع حركة نقل ترجمة ونقل للعلوم مع الإمبراطور فردريك المُسمى (فريدريتش) الثاني (1194-1250م)… مع الفارق بين البابا والإمبراطور على صعيد الهدف والأمانة العلمية.

لقد كان الإمبراطور فريدريك الثاني محباً للعرب وتراثهم، وهو الذي أجاد العربية وجعل من صقلية ونابولي وساليرنو بوابة للعلوم العربية، وقام بجهود ضخمة في نقل الآداب والعلوم العربية، وتبنى علماء العرب وكثروا في دياره وبلاطه في حركة الاستشراق القديمة الأولى.

إضافة إلى روجر بيكون (1214-1292م) رأس العلم التجريبي في أوروبا ورائدها في حركة الاستشراق القديمة، وكان راهباً فيلسوفاً رياضياً من رواد مدرسة أكسفورد أو جامعتها([4]) وأجاد العربية، وكان يشجع على تعلمها ويرى أن لا سبيل للعلم آنذاك إلا بتعلم العربية، وهو الذي هاجم أرسطو ونقل منهج العرب التجريبي في العلم كما قال جوستاف لوبون… وقد انتحل فصلاً كاملاً من كتاب ابن الهيثم في البصريات، كما دلَّل على ذلك الباحث طاهر صيام ‏في بحثه: (جحود الغرب والإمبريالية المعرفية).

ومن الكتابات الواردة التي تؤكد الأهداف المتنوعة ما قاله جون مول John Mole سنة 1841م: «… وبعد أن تكون الطباعة قد سهَّلت عملية تداول الكتب، بعد ذلك فقط يمكن للعقل الأوروبي أن يَنْفُذ فعلاً إلى أعماق الشرق»([5]). وما سبق لا يمنع بأن تكون هناك أهداف فردية أو شخصية عاطفية لدى بعضهم لا يقاس عليها، وذلك كما دوَّن يوهان جاكوب رايسكة Johann Jakob Reiske عن نفسه بقوله: «ليس عندي أولاد، ولكن أولادي يتامى بدون أب؛ وأعني بهم المخطوطات»([6])، كما أن ما يمكن تسميته بالفضول المعرفي وحب الإطلاع والمعرفة لدى بعض الغربيين يُعدُّ من الدوافع والأهداف سواءً عن الإسلام أو عن علومه وتراثه!

وأضيف كذلك أن هذا التنوع في الأهداف كان سبباً في ظهور مستشرقين منصفين من أمثال غوتيه الألماني، وزيغيريد هونكة الألمانية، وجوستاف لوبون الفرنسي، وموريس بوكاي.

وعَبْر التاريخ لم يكن تعاطي الغرب واحداً تجاه احترام مخطوطات العرب والمسلمين والاستفادة منها، إضافةً إلى الإعجاب بها عند بعضهم، لا سيما أن ما حدث في بلاد الأندلس عند سقوطها على يد برابرة الشمال الأوروبي كان بإحراق مئات الآلاف من مخطوطاتها، مما يعكس الهمجية الأوروبية، وكذلك ما حدث من نابليون بونابرت عند اجتياح الأزهر عام 1213هـ/1798م، وعن هذا السلوك -مثلاً- قال غوستاف لوبون عن رئيس الأساقفة الإسباني: «ظن رئيس الأساقفة الإسپاني أكزيمينيس أنه بإحراقه مؤخرًا ما قَدَر على جمعه من مخطوطات أعداء دينه العرب (أي ثمانين ألف كتاباً) مَحَا ذكرهم من صفحات التاريخ إلى الأبد، وما دَرَى أن ما تركه العرب من الآثار التي تملأ بلاد إسپانية، خلا مؤلفاتهم، يكفي لتخليد اسمهم إلى الأبد. وكانت عاصمة الخلافة قرطبة دارًا للعلوم والفنون والصناعة والتجارة، وتستطيع أن تقابلها بعواصم دول أوروبا العظمى الحديثة»([7]).

  ومما يمكن أن يكشف شيئاً من الأهداف والدوافع أن واقع التحقيق لمخطوطات التراث من قبل المستشرقين كان يختلف عن أصول التحقيق العلمي لدى المسلمين تجاه تراثهم، ومن جوانب هذا الاختلاف في التحقيق العلمي بين منهج المستشرقين ومنهج البحث العلمي في الإسلام أو لدى العرب والمسلمين، أن أغلبية المستشرقين والألمان منهم لم يهتموا بتوضيح مواضع الآيات القرآنية أو تخريج الأحاديث النبوية أو عزو الأشعار إلى قائلها، أو تصحيح الروايات التاريخية أو تضعيفها، ولم يضعوا تراجم للأعلام سواءً كانوا أشخاصاً أم كانت أماكن بقدر ما كان تحقيقهم هو للوصول إلى معرفة النصوص بدقة عند التحقيق في التراث الإسلامي! وربما كان ذلك خدمةً لأهدافهم المتنوعة القائمة على معرفة النص.

ومع هذا العمل الكبير فإن أعمال المستشرقين في هذا المجال تحديداً –عدا عن مخاطر التأليف- تشوبها الأخطاء، لا سيما أن التحقيق كان منهم بلغة غير لغتهم، وهذا وذاك فيه مظنة الخطأ، ومما يؤكد هذا القول ما ورد من قول أنستاس ماري الكرملي: «إن علم المستشرقين عرضة للنقد والتحقيق، كسائر الناس، ولا بد أن يُنْتَقدوا الانتقاد الصحيح ليظهر الغثاء ويُنبذ، ويبلغ إلى صميم الحق فيُتبع، ولقد وجدنا هفوات لا تغتفر لهؤلاء المستشرقين من جميع الأمم وفي جميع التصانيف وما نشروه من الكتب، ولا يمكننا أن نتعرض لجميع هفواتهم فهذا يدعونا إلى وضع سِفْرٍ ضخم. ولهذا نجدهم عُرْضةً لسوء النقل، وسوء الاقتباس، وسوء الاستشهاد ضاربين صفحاً عن ضوابط علمية كالأمانة والدقة والتجرد والموضوعية» ([8]).

ومع كل ما سبق عن الأهداف والدوافع فإن هذه القراءة في هذه الورقة البحثية لا تهدف إلى تبني موقفٍ رافضٍ لهذه الجهود الاستشراقية الكبيرة في خدمة التراث الإسلامي، ولا إلى إدانتها وتشويهها، أو تجاهلها أو التقليل من قيمتها، أو الخوض في تفاصيل سرقة بعضهم لمجموعات كبيرة من التراث العربي الإسلامي، ولكن بقدر ما هي قراءة المستفيد حول اختلاف مناهج التحقيق بين المسلمين وغيرهم، والقراءةُ بغرض التشخيص والغربلة، ومعرفة حقيقة أهداف الاستشراق وتنوعها، مع إلمامة يسيرة عن الفروقات بين تحقيق وآخر، وبين مُحقِّق وآخر ودولةٍ وأخرى! بل الفرق بين تحقيق مخطوط وتأليف كتاب، كما هو حال بروكلمان أحد أعمدة الاستشراق الحديث كونه مُحققاً أو مُؤلفاً.

 

تصفح المقال على الحاسب

تصفح المقال على جوال

 

المصدر: مجلة البيان، العدد 426، بتاريخ 1 صفر 1444هـ.

_______________________________________

المصادر:

([1]) انظر: رائد أميرعبدالله، بحث بعنوان: (المستشرقون الألمان وجهودهم تجاه المخطوطات العربيةالإسلامية)، ص5.

([2]) انظر: عرفان يلماز، مُكتشف الكنز المفقودفؤاد سزكين، ص107.

([3]) انظر: رائد أمير عبدالله،بحث بعنوان: (المستشرقون الألمان وجهودهم تجاه المخطوطات العربية الإسلامية)، ص6.

([4]) تعد أكسفورد مؤسسة تاريخية وفريدة من نوعها.لا يوجد تاريخ محدد للتأسيس، ولكن التدريس كان موجودًا في أكسفورد بشكل ما عام1096 وتطور سريعًا منذ عام 1167 ، عندما منع هنري الثاني طلاب اللغة الإنجليزية منالالتحاق بجامعة باريس. (انظر موقع جامعة أكسفورد، المقدمة والتاريخ، الرابطالتالي: https://www.ox.ac.uk/about/organisation/history).

([5]) انظر: رائد أميرعبدالله، بحث بعنوان: (المستشرقون الألمان وجهودهم تجاه المخطوطات العربيةالإسلامية)، ص6.

([6]) انظر: المرجع السابق،ص9.

([7]) انظر: غوستاف لوبون،حضارة العرب، القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013م، ص289.

([8]) انظر: رائد أميرعبدالله، بحث بعنوان: (المستشرقون الألمان وجهودهم تجاه المخطوطات العربيةالإسلامية)، ص19-20.

لا توجد تعليقات

بريدك الالكتروني لن يتم نشره


الاشتراك في

القائمة البريدية

اكتب بريدك الالكتروني واضغط اشتراك ليصلك كل جديد المركز

تصميم وتطوير SM4IT