كثيراً ما كنت استمع إلى أخي سليمان السلومي وهو يتحدث عن انجازات المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بمكة وقد جعله مشروع حياته الدعوي وأخَذَ عليه جُلَّ قلبه واهتمامه -وقد كان سليمان من ثمرات تربية والده وقهوته الشهيرة بالشنانة، ونتاج مآثر جَدِّه العلمية والدعوية رحمهم الله-، وكان أول رئيس لمجلس إدارة هذا المكتب لحوالي ثلاثين عاماً حتى مرضه. وكان من أبرز طموحاته بناء وقفية لمقر رئيسي للمكتب، وقد تحقق هذا بتوفيق من الله بعد طول معاناة، وذلك قبيل وفاته بسنوات، وكانت جهوده ابتداءً في هذا بإقناع المحسن محمد بن صالح البلاع -رحمه الله- ثم أولاده الأوفياء من بعد وفاته، وذلك بشراء أرض على الدائري الثالث بمكة المكرمة، ثم البناء ليكون معلماً حضارياً يضم مسجداً جامعاً بخدماته، وكذلك مكتباً لدعوة الجاليات بملاحقه المتعددة ووقفيته، وذلك على مساحة ثلاثة آلاف متر مربع تقريباً، وكانت المتابعات والتنفيذ على مدى حوالي ثمان سنوات من تضحية سليمان بالوقت في المتابعة، حيث أوقف كثيراً من وقته وجهده ونفسه لهذا المكتب الذي بدأه بتبرع من الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- عام 1415هـ ويحتفظ المكتب بخطاب وُضع بلوحة جدارية بالمكتب، وذلك من الشيخ ابن باز مُوجَّهاً لرئيس المكتب ومديره، وقد أوصى الشيخ سليمان بالتبرع بمكتبته العلمية والتي هي أعز ما يملكه طالب علم إلى هذا المكتب، وقد عُرف عند بعض الناس بشيخ جاليات مكة، وكنت حينما يتحدث معي أو مع غيري عن بعض الإنجازات والطموحات أتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم) [متفق عليه] وكم كسبت هذه البلاد المباركة وأهلها من خير وأمن مجتمعي وفكري بمثل هذه المبادرات الخيرية! وما في هذا من تعاون وتسامح وتحقيق لكرامة الإنسان الوافد وحقوقه، وذلك لتحقيق الهداية والرحمة للعالمين جميعاً، أدام الله علينا نعمة الإسلام والحفاظ على قِيَمِه وتشريعاته الرحمة المهداة.
وعن شيء من جهود هذا المكتب والعاملين فيه كان الخبر المنشور في صحيفة المدينة بتاريخ 21 رمضان 1431هـ وهو ما استوقفني للتأمل واسترجاع الماضي، وفي الخبر ورد: أن الدكتور سليمان -رحمه الله- من أوائل من بشّر أو نشر إعلامياً عن إسلام أكثر من 1200 صيني ممن يعملون في قطار المشاعر بمكة المكرمة ممن اكتشفوا بعض قيم الإسلام وسر سعادة أهله وسكينتهم. وأقول: لقد جاء هؤلاء العمال ليؤسسوا مشروع نقل بين المشاعر، فانتقلوا هم من حياة إلى حياة أخرى مختلفة، ولله في خلقه شؤون.
وممن كتب عن جهوده في مشروع هذا المكتب رجل الأعمال صالح بن محمد البلاع وهو من المتبرعين بتكاليف هذا المشروع كامله، ومما قال عنه: «لقد كَرَّس العم سليمان رحمه الله جُلَّ وقته لمتابعة معاملة إنهاء ترخيص بناء الجامع ومبنى الجاليات لأكثر من ست سنوات وهو الذي أشرف على التصميم من بدايته، حيث كان يتابع المكتب الهندسي وكذلك جميع الدوائر الحكومية وخاصة أمانة مكة المكرمة وفرع وزارة الشؤون الإسلامية، جعلها الله في ميزان حسناته، وكان دائماً يشاركنا المشورة وصحبته لمراجعة الجهات الحكومية».
وقد كتب عنه أحد أعضاء مجلس الإدارة وكيل رئيس شؤون الحرم المكي سابقاً الأستاذ الدكتور يوسف الوابل، وذلك بقوله: «وكان رحمه الله ورفع درجته حريصاً على أن يكون هناك أوقاف للمكتب التعاوني وأن يكون أيضا مقراً ومَعْلماً من معالم مكة المكرمة. والحمد لله أن الله تعالى قد أقر عينه قبل وفاته بالانتهاء من عمارة المكتب الرئيسي للدعوة وتوعية الجاليات وبناء المسجد الكبير بجوار المكتب، ويشمل أيضاً قاعات للمحاضرات والاجتماعات، وكان انتقال الموظفين والدعاة ومكاتبهم إلى هذا المقر الجديد».
وعن الجانب العلمي يُعدُّ سليمان أبا حاتم من أوائل النخب العلمية المتخصصة بالفرق والمذاهب الباطنية بالرسائل العلمية، لا سيما من خلال رسالته الماجستير: (القرامطة وآراؤهم الاعتقادية) بإشراف الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله – فرع جامعة الملك عبدالعزيز بمكة (أم القرى لاحقاً) وسوف تتم طباعتها ونشرها بمشيئة الله، وكذلك كانت رسالة الدكتوراه المتخصصة بعنوان «أصول الإسماعيلية: دراسة وتحليل ونقد» جامعة أم القرى بمكة، وقد تمت طباعتها ونشرها بالمكتبات وبالشبكة المعلوماتية.
وقد كان مرجعية علمية لكثير من الطلاب والباحثين في هذا التخصص تخرج على يديه طلاب علم. ومن أهمية البحث والتحقيق في هذا العلم والتخصص أن أحد رجال الفكر والثقافة وأساتذة المعرفة طلب من الجامعة تزويده بنسخة من هذه الرسالة العلمية، وربما كان هذا بسبب ندرة الكتابات المتخصصة أو المُحققة المنشورة آنذاك عن عقائد الباطنية وأثرها وخطرها على الإسلام مما انكشف مؤخراً، ومن يقرأ في مقدمات رسائله العلمية يدرك النَّفَسَ الاحتسابي في اختيار هذا التخصص والإفادة فيه، وحول هذا كتب عنه الشيخ الدكتور محمد سعيد القحطاني ومما قال: «كان أبو حاتم طالباً في الدراسات العليا العقدية، وقد اختار موضوعاً هو الأول من نوعه في بابه وهو (القرامطة وآراؤهم الاعتقادية)، حتى إن الدكتور غازي القصيبي وهو وزيرٌ في قمة مجده عَلِمَ عن هذه الرسالة فخاطب مدير جامعة أم القرى معالي الشيخ راشد الراجح بأنه يريد الحصول على نسخة من هذه الرسالة بأي وسيلة كانت… وكذلك عشنا في قسم العقيدة زمناً جميلاً، وتتلمذ في هذا القسم طلاب نجباء نفع الله بهم في بلدانهم. حَظِيَ أبو حاتم بمحبة العمل الدعوي، فكان مكتب الجاليات بمكة من نصيبه هو ومجموعة فاضلة من إخوانه، وبصماته في هذا المكتب يشهد بها كل من عرف هذا المكتب وتعامل معه».
إسهامات أخرى مشهودة:
كان الشيخ سليمان من العاملين في تنمية القطاع الخيري وأوقافه ومساجده، ومن أبرز إسهاماته بناؤه للمسجد المجاور لمنزله بعزيزية مكة بعد سعيه وحصوله على المتبرع بالأرض، ثم تكاليف البناء الذي تكفل بها سليمان بن صالح الخليفة -رحمه الله- من بلدته الشنانة، إضافة إلى شراكته في مساجد أخرى مع آخرين، لا حرمهم الله جميعاً الأجر والثواب.
وكتب عن بعض جهوده الدعوية التطوعية الأخرى العميد سعد بن عبدالله العكوز مدير التوعية والتوجيه بشرطة منطقة مكة المكرمة سابقاً، ومما قال عن هذا: «كان الشيخ سليمان مكلفاً بالشؤون الدينية بقطاع الأمن العام بالعاصمة المقدسة لعدة سنوات، وكان رحمه الله يقوم بترتيب جداول المواعظ والتوعية الدينية لقطاع الأمن، وذلك لإلقاء المواعظ والدروس لمنسوبيها، إضافة للتنسيق مع المشايخ والدعاة المتطوعين وبعثهم للجهات الأمنية والإجابة عن أسئلتهم الدينية».
وكانت له دروس ومحاضرات ثابتة شهرية في العقيدة والمذاهب الفكرية بحكم تخصصه على مدى سنوات، وذلك بالتعاون مع مكاتب الدعوة في كل من جدة ومنطقة نجران وكان لها آثار مباركة مشهودة خاصة لدى أهالي نجران، أكرمه الباري بقبولها والانتفاع بحسناتها. وكان من رجال الفتوى بالحرم المكي على مدى حوالي عشر سنوات دون مكافأة على عمله حسب رغبته، وقد ترجم له الشيخ منصور النقيب في كتابه الكبير «المدرسون في المسجد الحرام من القرن الأول حتى العصر الحاضر» فقال عنه في الجزء الثاني «دَّرس في الجامعة 28 سنة وترأس بعض أقسام الجامعة، وترأس المكتب التعاوني، وشارك بالإفتاء بالحرم المكي الشريف، وألقى بعض الدروس العلمية والمحاضرات والندوات في كل من الجامعة وفي نجران وجدة».
وكانت له إسهامات دعوية بالمحاضرات والجولات الدعوية في أمريكا وكندا، بل وفي إحدى دول أمريكا الجنوبية (دولة كوبا). وكان له اهتمام دعوي في فطاني بدولة تايلاند مع الدكتور إسماعيل لطفي مؤسس جامعة فطاني الأكاديمية التعليمية. كما كان له اهتمام دعوي بالصحراء الكبرى بالجزائر.
ومن صفاته المحمودة -رحمه الله- أنه كان صاحب طرفة في أحاديثه، وله بعض النكات العلمية، وقد ذكر عنه الدكتور سعيد بن محمد القرني أنموذجاً منها، حينما تباعدت بيوت الاثنين بمكة عن بعضها، وذلك بقول الشيخ سليمان له شخصياً «ألا تعلم أنني أُسلِّم عليك في كل صلاة قائلاً: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؟».
ومما اتصف به وعُرف عنه أنه طويل النَّفس في رسائله العلمية وفي حياته العملية، ومن ذلك ما يتعلق بمتابعة المعاملات والقضايا خاصة للمكتب التعاوني وإنشاء مقرِّه متحملاً أمانة المكتب وطموحاته مع كثير من زملائه المخلصين أعضاء مجلس الإدارة، ومما عُرف عنه أنه لم يكن يملَّ الحديث عن الاستضافات والحوارات العلمية والتعاون والشراكات مع بعض المحسنين ومع المكاتب المماثلة في عموم بلاد الحرمين الشريفين لخدمة هذا التخصص عن الجاليات، وقد وصفه رفيق دربه في المكتب الشيخ صالح بن يوسف الزهراني بحرصه على الأعمال الدعوية والمشاركة في أي برنامج فيه مصلحة للجاليات والسعي الحثيث لإنجاز مشروع (جامع الإحسان) ومقر مكتب الجاليات والذي يُعدُّ أكبر مشروع لهذه الجمعية.
وقد وُصف بفقيد الجاليات وشيخها ووالدها، وفقيد مكة وطلاب المنح الوافدين، حيث كان مهتماً بالمسلمين الجدد وطلاب المنح يبذل لهم نفيس أوقاته وجاهه من ليل ونهار، وهكذا العالم والداعية وهي تعبيرات ووصف من مقال كتبه عنه أحد القضاة في محكمة الاستئناف بمكة -أبو عبدالرحمن- بعد وفاته.
ويُعدُّ الشيخ من مواليد بلدة الشنانة بمحافظة الرس بالقصيم عام 1371هـ، ودَرَسَ المرحلة الابتدائية في مدرسة الشنانة، ثم تخرج من المعهد العلمي بالرس عام 1390هـ ، كما درس وتخرج من كلية الشريعة بالرياض عام 1394هـ، وكان قبوله معيداً بفرع جامعة الملك عبدالعزيز بمكة الذي كان نواة لتأسيس جامعة أم القرى، وحصل على شهادة الماجستير منها عام 1400هـ، كما حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة أم القرى كذلك عام 1409هـ، وكان قد درَّس بالجامعة على مدى 28 عاماً وترأس قسم القراءات، وأشرف على بعض الرسائل العلمية، ويُعدُّ من أبرز الرموز العلمية لأسرته كذلك، كما أنه مع إخوانه بمكة من عوامل نجاح حملة الحج التعاونية السنوية لوالده على مدى عقود.
وتوفي رحمه الله بمكة المكرمة بعد حوالي خمسة عقود من الزمن قضاها فيها، وذلك ثالث أيام عيد الفطر من عام 1443م وصُلي عليه بالحرم المكي، وشَيَّع جنازته جمع غفير يتقدمهم بعض أئمة الحرم، ونعاه الكثير بالتغريدات والكلمات والمكالمات من أماكن شتى. وله من الأبناء 9 ومن البنات 9 كذلك. فرحم الله فقيد العلم والدعوة وفقيد مكة وجالياتها.
د. محمد بن عبدالله السلومي
باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
[email protected]
المصدر: (صحيفة مكة)
لا توجد تعليقات