Skip to main content

المستشرقون الألمان والمخطوطات التاريخية الإسلامية

 

– مصطلحات وتعريفات:           

تأتي أهمية التعريف بالمصطلحات لتحديد المسار للقارئ عن مفهوميْ الاستشراق والمخطوط، فالاستشراق -حسب تعريف الدكتور علي النملة-: «هو اشتغال غير المسلمين بعلوم المسلمين وآدابهم وثقافتهم وحضارتهم وعبادتهم وتقاليدهم»([1])، والمستشرقون -حسب تعريف الدكتور رائد أمير-: «هم جماعة من علماء الغرب، تخصصوا في لغات الشرق وعنوا بالبحث فيها، وتخصصوا في دراسة اللغة العربية، والحضارة العربية [الإسلامية] وبقضايا العالم العربي وبالدين الإسلامي»([2]).

كما تأتي أهمية معرفة مصطلح (مخطوط عربي ومخطوطات)، حيث تعني الكتب المخطوطة غالباً من النُسَّاخ والورَّاقين والتلاميذ عبر عصور التاريخ الإسلامي قبل ظهور آلات الطباعة، وهي التي اهتم بها المستشرقون من الغرب في بداية تاريخ نهضة أوروبا، فكلمة (مَخْطوط) تعني: كتاباً أو وثيقةً أو نصاً مكتوباً باليد لم يطبع بعد. و(المخطوطة الأثرية): هي ما دُوِّنَ باليد أيّاً كانت لغته ونوع كتابته يتضمّن إنتاجاً فكرياً أو له قيمة تاريخية([3]).

ومن المؤكد أن مصطلح مخطوط لم يُعرف قديماً في التاريخ، لكنه يعني كل ما كُتِبَ قديماً بالقلم من التلاميذ وطلاب العلم ومشايخهم، ومجالات المخطوطات الكبيرة ما كان يُعرف بأمهات الكتب، وكُتب الورَّاقين والنُّساخ، والمؤلفات، وكتب الأصول والمعارف. وقد برزت كلمة (مخطوط) بعد ظهور الطباعة لأول مرةٍ في أوروبا باختلاف بين الدول ما بين عام 1455م  وعام 1477م، وغالباً كانت بداية الطباعة باللغة اللاتينية، وأول طباعة عربية كانت في عام 1514م في إيطاليا، حسب ما ذكره الشيخ بكر أبو زيد في أحد كتبه([4])، وبالطباعة نشأ التفريق بين المخطوط والمطبوع. وقد كَتَبَ عن تاريخ بداية المخطوط العربي مدير قسم المخطوطات بجامعة الملك سعود، ومما قال: «وإذا أردنا تحديد عمر زمني لبداية المخطوطات العربية واستثنينا من ذلك النقوش والرسائل في عهد الجاهلية، فإن كتابة القرآن الكريم على أيدي الصحابة رضوان الله عليهم كُتَّاب (الوحي) هي بداية فعلية، فقد جُمع القرآن الكريم في عهد الخلفاء أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، وبدأت المصنفات بالظهور معتمدة على القرآن الكريم فمثلاً عَكَفَ القراء والمفسرون على تفسير القرآن الكريم، والمؤرخون ألَّفوا عن تاريخ الأمم السابقة وهكذا»([5]).

وكانت المؤلفات قديماً عبر الأزمان تُكتب على الرَّق [الجلود]، كما كُتبت بعض الكتب على ورق البُردى قديماً، إلى أن ظهر الورق في عصر النهضة لدى المسلمين في بغداد عام 179هـ/795م، وذلك قبل أن تتطور وسائل صناعة الورق في العصور الحديثة على يد بعض الأوروبيين.([6])

«وخلال تلك القرون العديدة انتشرت العديد من المؤلفات بخط اليد وظهر الكثير من الورَّاقين وأُنشئت المكتبات إبَّان الدولة العباسية، وازدهرت حركة الترجمة عند المسلمين ازدهاراً ملحوظاً سواءً من العربية إلى اللغات الأخرى أم العكس، ووصلت الحضارة العربية الإسلامية إلى ذروتها في وقت كان الجهل يعم العالم الغربي… لكن بعض هذا التراث العظيم اندثر، لأسباب عديدة منها الحروب والفتن والحرائق، ويُقدَّر عدد المخطوطات العربية بأكثر من ثلاثة ملايين مخطوطة مبعثرة في مكتبات العالم الإسلامي والغربي»([7])، وأقول قد تكون أكثر من هذا، لا سيما مع عدم وجود التصنيف والفهرسة والاحصاء الشامل بمكتبات العالم العربي بصورةٍ خاصة.

ومن يقرأ عن بعض المتاحف العالمية ومحتوياتها من المقتنيات والمكتبات والمخطوطات يُدرك أن الإحصاء الدقيق للمخطوطات العربية شيء غير ممكن، ومن ذلك واقع المتحف الاسطوري في سان بطرسبرغ في روسيا المسمى متحف هيرميتاج، والذي يزوره أكثر من خمسة ملايين زائر سنوياً، وفيه نحوُ (50.000) خمسين ألف مكتبة! تحوي أكثر من مليار مطبوعة! من اللغات بما فيها اللغة العربية([8]).

وهذه الثروة العلمية والمعرفية من المخطوطات كانت ولا زالت مصدر ثراء معرفي للغرب من خلال أعمال المستشرقين المتعددة والمتنوعة أزمنة الاستشراق، وقد برزت معها مؤخراً جهود بعض العلماء من المحققين للتراث في العالم العربي والإسلامي من خلال الاهتمام بالتحقيق للمخطوطات كذلك، بل والتأليف عنها بحركة علمية لا تقل عن حركة الاستشراق الغربي، إن لم تكن زادت عليها.

وقد لفت انتباهي وأنا أحقق الناقص من إحدى طبقات الصحابة لابن سعد المتوفى (230هـ) أن للمؤرخين الألمان اهتماماً كبيراً بمخطوطات التاريخ وبصورة أكثر من غيرهم، كما تأكد بالدراسات والأبحاث أن عموم الاستشراق يُعدُّ (مشروعاً استراتيجياً) لدى معظم دول الغرب، وذلك تجاه عموم مخطوطات التراث العربي الإسلامي لا سيما المعنية بالعلوم التجريبية، ومع مخطوطات التاريخ بصورةٍ خاصة، كما هو الحال في تحقيقهم لطبقات ابن سعد في أوائل القرن العشرين (1904-1918م) وذلك على يد ثمانية من المستشرقين الألمان، وكان اهتمامهم المبكر والقوي ربما يُعدُّ منافساً لغيرهم من الأجناس الأوروبية الأخرى.

ومن المهم القول بأن البحث في هذا الموضوع لا يعنينا ما ترتب على هذا الاستشراق من نتائج سواءً كانت حملات صليبية استعمارية أو ما خَلْفته من دول وظيفية في أنحاء العالم لتكون تابعةً للمحتل وبرامج تغريبه، كما لا يعنينا في هذه الورقات العلمية ما يتعلق  بأحوال المستشرقين، ولا عن عموم مؤلفاتهم في التاريخ أو غيره من علوم التراث العربي، ولا يعنينا كذلك تاريخ حصولهم على هذا التراث النفيس ووسائل هذا الحصول، سواءً كان مشروعاً أم غير مشروع، كما أنه لا يعنينا اهتمامهم الكبير بالجانب الحضاري في الإسلام من خلال طباعة مخطوطاته التاريخية. بل ولا تعنينا مناهجهم المختلفة في التحقيق ونزاهته أو سرقته بالانتحال من خلال نسبته إلى بعضهم بعد ترجمته بقدر ما يعني إثبات الانتحال بلغةٍ وثائقية.

كما أن الاختلافات فيما بين أهدافهم من هذا العمل الكبير الذي تأسست له مراكز أبحاث وجمعيات علمية ومجلات متخصصة ومؤتمرات في عواصم أوروبية لا يتطلب تفصيله في هذه القراءة، وكذلك حول بدايات هذه الدراسات الاستشراقية التاريخية في الغرب. بقدر ما يعنينا هنا المحاولة في تحديد هدف المجموعات الكبيرة من الأساتذة الألمان بإخراج بعض مخطوطات الشرق العربية الإسلامية التاريخية إلى مطبوعات دون تعليق أو تشويه في الغالب، والذي هو جزء من الاستشراق العام، وقد كان دخول الألمان إلى هذا الفن من العلوم بعد الفرنسيين والبريطانيين والإيرلنديين والأمريكيين حسب قول الباحث الدكتور رائد مع التحفظ حول سبق واهتمام الأمريكيين الذين لم يكن لهم اهتمام كبير بالمخطوطات العربية كالأوربيين.

ولهذا الهدف المحدد بعلوم التاريخ والمُخصَّص بالألمان والمقتصر على المخطوطات التاريخية العربية الإسلامية -دون تأليف الكتب الأجنبية الألمانية عن التاريخ الإسلامي- واجهتُ بعض التحدي العلمي في الحصول على مادة علمية وثائقية متكاملة من غير تشعب تجيب عن أبرز تساؤلات هذا الموضوع، إلا أن ما فتح الآفاق كان بالقراءة والبحث في كُتب وتحقيقات ومحاضرات البروفيسور التركي الألماني محمد فؤاد سزكين المعروف بفؤاد سزكين([9])، وكذلك محاضرات وكُتب تلميذه اللبيب الأستاذ علي النملة، إضافةً إلى بحث متميزٍ عن سزكين، وفيه عن الانتحال والسرقات بعنوان (مكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين – وجولة ثقافية في اختراعات المسلمين) تأليف الأستاذ الدكتور عرفان يلماز.

ويضاف لما سبق ورقة علمية وثائقية منشورة بعنوان (جحود الغرب والإمبريالية الغربية) للباحث طاهر صيام، وفي الورقة الأخيرة كشفٌ وتوضيح علمي دقيق بالأحداث والتواريخ عن حركة انتقال العلوم والمعارف الإسلامية إلى الغرب، وبمجمل هذه الجهود العلمية المتعددة انفتحت للباحث آفاق البحث مع بحوث علمية أخرى لكل من الباحث ابن يوسف شتيج الجزائري([10]) والباحث الأستاذ الدكتور رائد أمير عبدالله من الموصل؛ حيثكان في كتبهم وبحوثهم ما يكفي إلى حدٍّ كبير في تغطية علمية للإجابة عن أبرز تساؤلات هذا الموضوع، فكانت كثير من النقولات عن موضوع هذه القراءة من هؤلاء جميعاً، ويبدو أن الباحث رائد أمير عبدالله قد استفاد بالنقل من ابن يوسف شتيج الذي سبقه.

– التراث العربي الإسلامي ويقظة أوروبا:   

قبل مناقشة الدوافع والأهداف لهذا الاستشراق يحسن معرفة كيف تكوَّن هذا الإرث العربي من المخطوطات؟ وهو الأمر الذي يستلزم النقل من أحد أبرز مؤرخي الغرب المنصفين عن حجم التفوق الحضاري للمسلمين وغيرهم بالتراث العربي الإسلامي في هذا الشأن مع توضيح كيف استفاد الغرب من التراث العربي والإسلامي وكيف نقل هذا التراث حياة الغرب من الهمجية والوحشية إلى العلم والحضارة كما هو تعبير لوبون: «إذا رجعنا إلى القرن التاسع والقرن العاشر من الميلاد [الموافق القرن الثالث والقرن الرابع من الهجرة]، حين كانت الحضارة الإسلامية في إسپانية ساطعة جدٍّا، رأينا أن مراكز الثقافة في الغرب كانت أبراجًا يسكنها سنيوراتٌ مُتوحشون يفخرون بأنهم لا يقرأون، وأن أكثر رجال النصرانية معرفةً كانوا من الرهبان المساكين الجاهلين الذين يقضون أوقاتهم في أديارهم… ودامت همجيةُ أوروبة البالغة زمنًا طويلًا من غير أن تشعر بها، ولم يبدُ في أوربة بعض الميل إلى العلم إلا في القرن الحادي عشر وفي القرن الثاني عشر من الميلاد، وذلك حين ظهر فيها أناسٌ رَأَوا أن يرفعوا أكفان الجهل الثقيل عنهم، فولَّوا وجوههم شطرَ العرب الذين كانوا أئمةً وحدهم. ولم تكن الحروب الصليبية سببًا في إدخال العلوم إلى أوربة كما يُردَّد على العموم، وإنما دخلت العلوم أوربة من إسپانية وصقلية وإيطالية، وذلك أن مكتباً [كان] للمترجمين في طليطلة بدأ منذ سنة 1130م يَنقُل أهم كتب العرب إلى اللغة اللاتينية تحت رعاية رئيس الأساقفة ريمون»([11]).

ومما كتب غوستاف لوبون حول رأيه في كنوز المسلمين وتراثهم: «فعلى العالم أن يعترف للعرب بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة اعترافًا أبديٍّا»، وقال لوبون نقلاً عن مسيو لِيبْرى عن هذا التراث: «لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ؛ لتأخرت نهضة أوربة في الآداب عدة قرون»([12]).

 وتؤكد الباحثة الألمانية زيغريد هونكة ما كرر ذكره غوستاف لوبون عن استيقاظ أوروبا بعد اكتشاف الغرب للعلوم العربية الإسلامية بقولها: «ولم يبدأ ازدهارُ الغرب ونهضتُه إلا حينَ بدأ احتكاكه بالعربِ سياسيًا وعلميًا وتجاريًا. واستيقظَ الفكر الأوروبي على قُدوم العلومِ العربية من سُباتِه الذي دامَ قروناً»([13]).

وكتب الباحث طاهر صيام عن حركة التراث العربي الإسلامي وانتقاله لأوروبا، بل وكيف كان نشوء الجامعات في الغرب، وأن فكرة الجامعات مما استفادوه من المسلمين، ومما قاله في ورقته العلمية: «كما يمكننا ملاحظة أن دَور صِقليةَ في انتقالِ التراثِ الفكري العربي إلى بقيةِ بلدانِ أوروبا كان له الشأنُ الكبيرُ. وبعد خروج المسلمين منها ظلت صقلية تعيش فسحةَ اللقاء، إذ ساعدت بفضلِ المسلمين على قيام حركةِ النهضةِ الإيطاليةِ مبكرًا في أوروبا. وأسس فريدريك الثاني في سنة ١٢٢٤م جامعة في (نابولي) وجعل منها أكاديميةً لنقلِ العلوم العربية إلى العالم الغربي.

أما الصليبيون فأخذوا عن العربِ استخدامَ البوصلةِ والاسطرلابِ وآلاتِ الرصدِ الفلكي والحمامِ الزاجلِ. ونقل الصليبيون معهم تقنياتٍ جديدةً مثلَ طاحونةِ الهواء وصناعة الزجاجِ الملونِ، وزراعة القطنِ والمشمشِ والأرزِ وقصبِ السكر، وصناعة الورق التي لولاها لما انتشرت الكتب والمعرفةُ بين الأوروبيين»([14]).

وكتب غوستاف لوبون كذلك عن فضل حضارة الأندلس المسلمة على أوروبا النصرانية بالعلم والكتب والمؤلفات (المخطوطات)، بل وجامعاتهم المتأثرة ببعض العلوم الإسلامية التي كانت المصدر الوحيد للغرب خلال خمسة قرون أو ستة حسب تعبير لوبون، وذلك بقوله: «وعربُ الأندلس وحدهم هم الذين صانوا في القرن العاشر من الميلاد، وذلك في تلك الزاوية الصغيرة من الغرب، العلومَ والآداب التي أُهمِلَت في كل مكان حتى في القسطنطينية، ولم يكن في العالم في ذلك الزمن بلادٌ يمكن الدرسُ فيها غيرَ الأندلس العربية، وذلك خلا الشرق الإسلامي طبعًا، وإلى بلاد الأندلس كان يذهب أولئك النصارى القليلون لطلب العلوم في الحقيقة… ولم يظهر في أوربة قبل القرن الخامس عشر من الميلاد عالمٌ لم يقتصر على استنساخ كتب العرب… وظلت ترجمات كتب العرب، ولا سيما الكتب العلمية، مصدرًا وحيدًا تقريبًا للتدريس في جامعات أوربة خمسة قرون أو ستة قرون، ويمكننا أن نقول: إن تأثير العرب في بعض العلوم، كعلم الطب مثلًا دام إلى أيامنا، فقد شُرِحَت كتب ابن سينا في مونپلية في أواخر القرن الماضي. وبلغ تأثير العرب في جامعات أوربة من الاتساع ما شَمِل معه بعض المعارف التي لم يُحققوا فيها تقدمًا مهمٍّا كالفلسفة مثلًا»([15]).

بل إن غوستاف لوبون كتب عن حضارة التراث العربي الإسلامي ومكتبات هذا التراث بالأرقام قائلاً: «وكان للعرب في إسبانية وحدَها (70) سبعونَ مكتبةً عامةً، وكان في مكتبة الخليفة الحاكم الثاني بقرطبة (600) ستمائةِ ألف كتاب، كما روى مؤرخو العرب، وقد قيل -بسبب ذلك-: إن شارلمان لم يستطع أن يجمع في مكتبة فرنسا الملكية أكثرَ من (900) تسعمائة مجلدٍ»([16]).

ويُضيف أستاذ التحقيق العلمي للتراث العربي الإسلامي الدفين الأستاذ الدكتور فؤاد سزكين ما يُعزِّز أقوال الغربيين عن الحضارة الإسلامية وتراثها وأثرها في استيقاظ أوروبا، وإنصافه عن تطوير الغرب للعلوم الإسلامية دون الزعم حول الحضارة اليونانية، حيث اعتبر حضارة الغرب وليدة حضارة الإسلام وليست وليدة الحضارة الإغريقية اليونانية بالرغم من استفادتها منها، وذلك بقوله: «إن الحضارة الأوروبية الحالية ما هي إلا امتداد للحضارة الإسلامية، ولقد ظهرت في ظل ظروف معيَّنة، عقب عصرٍ معين، وفي إطار عالَم دينيٍّ وظروف اقتصادية وسياسية وجغرافية مختلفة، إنني لا أرى الحضارة الغربية غريبة علينا، إذا ما استثنينا بعض العادات؛ فالحضارة الغربية  تعتبر وليدة الحضارة الإسلامية، وعلينا أن نحبَّ هذه الابنة وألا ننظر إليها وكأنها عدوَّة، وعلينا أن نُقدِّر الأشياء التي طورَتها، وننقل الأشياء الإيجابية عنها، ونعتمد على هذه الأشياء لقيادة نهضةٍ جديدة… إن الحضارة الإسلامية أساسُ الحضارة والعلوم الأوروبية الحديثة، وليست الحضارة اليونانية كما هو مزعومٌ معلوم، ولو لم تدخل الحضارة والعلوم الإسلامية مرحلة ركودٍ مع نهاية القرن السادس عشر؛ لكانت وَصَلَتْ قبل قرنين إلى المستوى العلمي والتكنولوجي الذي وصلت إليه الإنسانية في القرن العشرين، ولكانت البشرية قد تعرَّفت إلى الطاقة النووية قبل قرنين من الآن، ولكنني لا أستطيع معرفة أَمِنَ الجيِّدِ أَّن البشرية تعرفت إلى الذرة في هذه الحقبة أم من السيء»([17]).

ويؤكد سزكين أن علوم الغرب المعاصرة وتطورهم العلمي الحديث ما هي إلا تطوير لعلوم المسلمين، ولا اعتراض على هذا أو استغراب من معظم أساتذة الاستشراق الألماني أنفسهم، ومن ذلك قوله: «ما أرى العلوم الغربية إلا كتطوُّرٍ للعلوم الإسلامية حدثت في بيئة وظروف مختلفة، وعندما ذكرْتُ للعديد من زملائنا الألمان الذين زاروا معهدنا الأدلة على ادعاءاتي في هذا السياق من خلال عرض أسماء هؤلاء العلماء ومؤلَّفاتهم في المتحف والمكتبة الموجودتين بالمعهد؛ لم يستغرب ذلك أحدٌ منهم ولم يستطع الاعتراض عليه، وهذا الوضع يعتبر تطوُّراً للعلم الذي وضعَ المسلمون أُسُسَهُ، حيث استمر دون أن يتعثر إلى أن وصل إلى ما عليه الآن من تقدُّمٍ وازدهار، وبالطبع فهناك تطوُّرات وعوامل أخرى، لكن الخطوط العريضة للعلوم الغربية ما هي إلا عبارةٌ عن استدامة مسارٍ للعلوم الإسلامية، وإن معتقدي هذا لا يتغيَّرُ أبداً في  أثناء الدراسات التي أقرؤها وأُداوم عليها اليوم، بل يتطوَّر وينمو يوماً عن يوم»([18]).

ويُفنِّد سزكين -وهو الباحث المحقق- مزاعم انتقال علوم اليونان للمسلمين بالترجمة دون جهودٍ وابتكار وتجديد وتخصصات علمية جديدة من قِبل المسلمين، ويُعدُّ سزكين رائد البحث العلمي في النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي وما بعده، وقد أسهم بالرد على شبهة أن علماء الإسلام ناقلون عن اليونان بقول واضح لا لبس فيه، وأثبت أن المسلمين مؤسسون مخترعون مكتشفون لعلومهم التجريبية، وذلك بقوله: «لم يستطع البيزنطيون تحقيق أيِّ تطوُّرٍ علمي يُذْكر، وذلك رغم امتلاكهم الكتب اليونانية كافةً ومعرفتهم باللغة اليونانية، كما أنهم لم يتمكنوا من مواصلة طريق الحضارة اليونانية بواسطة الموروث العلمي الذي كان لديهم، ولم يَقدروا على تقديم شيءٍ يُذْكَر للبشرية، أما العالم الإسلامي فإلى جانب قيامِهِ بترجمةِ المؤلَّفات اليونانية؛ فَهِمَ التراثَ العلمي الموجود وحوَّلَهُ وطوَّره، وأضاف إليه، وأسَّس تخصصاتٍ علمية جديدة، فتبدَّلت العلوم التي نقلوها عن اليونانيين تماماً، ولم يبق من أصلها إلا النزر اليسير، وإن أوَّل ما عرف الغربيون من العلوم هو ذلك العلم الذي تطور في حقلِ الحضارة الإسلامية»([19]).

وأقول معلقاً على هذا القول لسزكين هل حان الوقت لتكون هذه النتائج ضمن المقررات الدراسية والمناهج التعليمية لتعزيز الانتماء إلى هذا التاريخ وهذه الحضارة؟

 تصفح المقال على الحاسب                                                                                                                        

تصفح المقال على جوال                                                                                                                           

المصدر: مجلة البيان، العدد 425، بتاريخ 1 محرم 1444هـ

_________________________

هوامش المصادر:

([1]) انظر: علي بن إبراهيم النملة، محاضرة بعنوان: (محمد فؤاد سزكين: انطلاقة عالم)، جدة: أسبوعية الأستاذ الدكتور عبدالمحسن القحطاني، 1443ه (2022م).

([2]) انظر: رائد أمير عبدالله، بحث بعنوان: (المستشرقون الألمان وجهودهم تجاه المخطوطات العربية الإسلامية)، مجلة كلية العلوم الإسلامية، المجلد الثامن العدد (15)، بغداد، 1435هـ(2014م)، ص4.

([3]) انظر عن تعريف المصطلح: معجم المعاني الجامع – معجم عربي عربي، موقع المعاني، الرابط التالي: https://bit.ly/3rHchfu.

([4]) انظر: بكر عبدالله أبو زيد، فقه النوازل قضايا فقهية مُعاصرة، المجلد الثاني، بيروت: مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1416هـ (1996م)، ص109-110.

([5]) انظر: صالح بن موسى القرني، صحيفة الرياض، العدد 14914، بتاريخ 28 ربيع الآخر 1430هـ، الرابط التالي: https://www.alriyadh.com/424504

([6]) انظر بتصرف يسير: صالح بن موسى القرني، صحيفة الرياض، العدد 14914، بتاريخ 28 ربيع الآخر 1430هـ، الرابط التالي: https://www.alriyadh.com/424504، إيمان محمود، أول من اكتشف الورق، موقع المرسال، بتاريخ 19 نوفمبر 2017م، الرابط التالي:https://www.almrsal.com/post/560388

([7]) انظر: صالح بن موسى القرني، صحيفة الرياض، العدد 14914، بتاريخ 28 ربيع الآخر 1430هـ، الرابط التالي:https://www.alriyadh.com/424504

([8]) انظر: عن متحف هيرميتاج – موسوعة ويكيبيديا الحرة، الرابط التالي: https://bit.ly/3FUngJu.

([9]) يُعدُّ سزكين من أعلام ومنظري التحقيق العلمي المعاصر فهو أكثر من محقق، وهو الممنوح الوسام الألماني الرفيع من قِبل رئيس دولة ألمانيا، وهو وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، كما حصل على جائزة الملك فيصل للعلوم الإسلامية، ووصل إلى درجة الأستاذية في جامعة قوته في فرانكفورت مكافأةً له على أبحاثه الرائدة المتميزة خاصةً عن الرصد العلمي الكبير للمخطوطات، وتطور العلوم الطبيعية لدى المسلمين قبل غيرهم! بل وتأسيس متحف معني بهذا.

([10]) انظر: بن يوسف شتيج، بحث بعنوان: (جهود المستشرقين في تحقيق المخطوطات العربية – المستشرقون الألمان نموذجاً)، مجلة التراث، الجزائر، المجلد 13، العدد7، 30 يونيو 2013 ص79-97

([11]) انظر: غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013م، ص586-587

([12]) انظر: غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص588

([13]) انظر: زيغريدج هونكه، شمس الله تسطع على الغرب – أثر الحضارة العربية في أوروبة، ط8، بيروت: دار الجيل/دار الأفاق الجديدة، 1413هـ(1993م)، ص541.

([14]) انظر: طاهر صيام، بحث بعنوان: (جحود الغرب والإمبريالية الغربية)، مجلة رواء، العدد 13، بتاريخ رجب 1443هـ الموافق (فبراير 2022م)، ص35. نقلاً عن (إسهامات العرب في النهضة الأوروبية لمحمد أحمد: ص290) و (نتائج الحروب الصليبية لجوزيف بورلو: ص230).

([15]) انظر: غوستاف لوبون، حضارة العرب، القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013م، ص588-589. ومن أراد الاستزادة عن حضارة الإسلام من مصادر متعددة وباختصار مفيد فيمكنه الاطلاع على بحث بعنوان: (قبل ألف سنة.. شوارع مظللة ومضاءة وفنادق ومولات تجارية.. عمران المدينة الإسلامية)، محمد شعبان أيوب، الجزيرة نت، بتاريخ 25 يناير 2022م، الرابط التالي: https://bit.ly/32G26j6

([16]) انظر: غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص434.

([17]) انظر: عرفان يلماز، مُكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين – وجولة ثقافية في اختراعات المسلمين، ترجمة أحمد كمال، ط1، القاهرة: دار النيل، 2015م،  ص104-105.

([18]) انظر: عرفان يلماز، مُكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين، ص106.

([19]) انظر: عرفان يلماز، مُكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين، ص106-107.

 

لا توجد تعليقات

بريدك الالكتروني لن يتم نشره


الاشتراك في

القائمة البريدية

اكتب بريدك الالكتروني واضغط اشتراك ليصلك كل جديد المركز

تصميم وتطوير SM4IT