مقتطفات منقولة من المقال الحقوقي للأفراد والمنظمات!!
(جهود الغرب في تحجيم البذل التّطوّعيّ الإسلاميّ.. لماذا؟)
للشيخ صالح الحصين -رحمه الله- بتاريخ: الاثنين 9 شوال 1433هـ.
ما فتئ الخبراء منذ العقود الماضية يبدون عدم اقتناعهم بكفاية “دخل الفرد” معيارًا للتقدّم الحضاريّ، ولذلك راحوا يبحثون عن معايير أكثر دقّة وصدقًا؛ فاتّجهوا إلى المعيار “الإنسانيّ” الذي يعني أنّه كلّما كانت البلد أنصع سجلاًّ في حماية حقوق الإنسان، وأكثر اهتمامًا بالمصلحة العامّة “والبذل التّطوّعيّ” وجب اعتبارها أكثر تقدّمًا في السلّم الحضاريّ، ولذا اعتبروا السويد البلد الأكثر تقدّمًا ورُقِيًّا في أوروبا.
ومصداق هذا المعيار، لو أخذنا الولايات المتّحدة الأمريكيّة أنموذجًا لوجدنا الإحصاءات تشير إلى أنّ نصيب كلّ (200) فرد من السّكان مؤسّسة واحدة غير ربحيّة([2]) لعام 2010 فإنّ من بين كلّ أربعة من السّكان في الولايات المتّحدة يبذل واحد منهم فترة من عمره في البذل التّطوعيّ، وأنّ مجموع ساعات العمل التّطوعيّ للمواطنين الأمريكيّين تزيد على (8) بلايين ساعة عمل، وتظهر بعض الإحصاءات الأخرى([4])، وجزء كبير من هذه المبالغ تُصرف على الدّعوة في الخارج (التّنصير).
مغزى ما تقدّم أنّ “البذل التّطوّعيّ” بوصفه حاجة أساسيّة للإنسان ليس فقط فكرة فلسفيّة بل هو حقيقة علميّة Scientific تتجلّى في السّلوك الإنسانيّ في كلّ زمان ومكان، هذا يعني أنّ “البذل التّطوعيّ” ليس فقط من حقوق الإنسان بل من أولويّات هذه الحقوق، وذلك يعني أنّ أيّ تحديد لحريّة الإنسان في ممارسة هذا الحقّ، وأيّ حدٍّ من إمكانيّاته في تحقيق ذلك لا يشكّل مجرّد انتهاك لحريّة الإنسان الشّخصيّة، بل انتهاكًا لحقّ أساسيّ من حقوقه.
وفيما يتعلّق بالإنسان المسلم، فليس الأمر قاصرًا على ذلك، بل نعرف أنّه عندما يريد العالم المسلم أن يعبّر في كلمات موجزة عن “الإسلام” يقول مثل ما يقول الإمام ابن تيمية: “الدّين كلّه يدور على الإخلاص للحقّ ورحمة الخلْق”، أو كما يقول الإمام الرازي: “مجامع الطّاعات: تعظيم أمر الله، والشّفقة على خلق الله”، أو كما يقول الإمام الهروي عن البدايات في علم التّصوف: “إقامة أمر الله وتعظيم نهيه، والشّفقة على العالم”.
عندما أغار المستعمرون على العالم الإسلاميّ، كانوا يعرفون أنّ قوّته الحقيقيّة تكمن في قوّته المعنويّة (الإسلام)، فتوجّهوا إلى إضعافها بوسائل مختلفة، ولمّا كان معروفًا دور النّظام الوقفيّ ونظام الإرصاد في وجود القوّة المعنويّة، وكانوا يعرفون أنّ هذا النّظام اكتسب قوّته من تشدّد الفقهاء، في الحكم بعدم قابليّة الأصول الوقفيّة للتّصرّف، وبأنّ شرط الواقف الصّحيح مثل حكم الشّارع، وضمان ذلك بعدم إعطاء فرصة للإدارة التّنفيذيّة بالتّدخّل في هذا النّظام بحصر الولاية على الأوقاف في جهاز القضاء.
فكان الخطّ الأساسيّ للاستعمار هو تمكين الإدارة التّنفيذيّة من التّدخّل في النّظام الوقفيّ بحجّة الحاجة للتّنظيم ومواجهة الحاجات المستجدّة، وخلّفت الحكومات العلمانيّة الاستعمار في هذا الاتّجاه، حتى أدّت بمثل مصر إلى تأميم الأوقاف بإنشاء مؤسّسة عامّة يشمل سلطانها كلّ الأوقاف في مصر (عدا أوقاف الأقباط وعدا الأوقاف التي يوقفها صاحبها بشرط النّظارة لنفسه وذلك مدّة حياته فقط).
ويعطي القانون المؤسّسة العامّة بعد ذلك السّلطة التّقديريّة فيما يتعلّق بالتّصرف في الوقف، وفي تعديل شروط الواقف.
كما اتّخذ الاستعمار في سعيه لإضعاف القوّة المعنويّة للعالم الإسلاميّ نشر فوضى فكريّة للتّشويش على التّصوّرات والقيم الإسلاميّة وتشجيع الدّعوة الدّينيّة المضادّة (التّنصير)، فكان من الملاحظ أنّ الفرنسيّين الذين يعارضون اليسوعيّين في فرنسا يشجّعون نشاطهم في بلدان العالم الإسلاميّ الواقعة تحت سلطانهم، وكان من الملاحظ أنّ سفارات البلدان الغربيّة المتنافسة والمتضادّة المصالح تجتمع على تشجيع وسائل الغزو الفكريّ بالصّورتين المشار إليهما آنفًا.
في عقيدة المسلم، أنّ أيّ جهد يبذل للنّفع العامّ مع الإخلاص هو من سبيل الله، وإنّ الصّدّ عن سبيل الله بأيّ وجه يستحقّ ما وصفه الله به في القرآن، وتوعّد عليه، ففي سورتي الفجر والماعون نعى على من لا يحضّ على طعام المسكين فكيف بمن يعوق إطعامه، لقد أوضح القرآن أنّ منع الإنسان من العبادة الخاصّة النّفع به من أشنع الظّلم، فكيف بمنع العبادة التي يتعدّى نفعها إلى الغير.
وعندما يغفل أهل بلد عن هذا الجانب فلا يُقْدر قدره، فقد يغفلون أيضًا عن آثار هذا الوضع المدمّرة على أمن المجتمع واستقراره وسلامته، ليس الأمر قاصرًا على تعويق مواجهة الحاجات الأساسيّة للبشر من طعام وغذاء وإيواء وتعليم وتهيئة للعيش الكريم، بل حرمان النّاس- ولاسيما شبابهم- الذين تملأ قلوبهم ومخيّلاتهم الأشواق إلى المثل العليا والإرضاء النفسيّ بالبذل للغير، حرمانهم من المجالات النّافعة السّليمة، فيدفعهم الإحساس بالفراغ (Existential Vacuum)، والحرمان من البذل للغير، والحاجة النّفسيّة الملحّة لملْئه، إلى مجالات قد لا تكون نافعة ولا سليمة.
مغزى ما تقدّم، أنّ البذل التّطوعيّ في سبيل النّفع العامّ في جانب الإنسان المسلم ليس فقط وسيلة للإرضاء النّفسيّ، ومن ثم تلبية لحاجة طبيعيّة للإنسان السّويّ، بل هو عبادة وشوق إلى رضا الله وتلبية لنداء ملحّ من الضّمير والوجدان.
هذا يعني أنّ أيّ تحديد لفرصة الإنسان المسلم في ممارسة البذل التّطوعيّ للنّفع العامّ لن يكون فقط مجرّد انتهاك للحريّة الشّخصيّة والمدنيّة، بل انتهاك لحقّ الإنسان في حريّة العبادة، وحريّة الضّمير.
يبقى الأمر المزعج لأيّ شخص مهتمّ بحقوق الإنسان أنّ الإدارة الأمريكيّة وهي تكشف دورها في هذا الموقف المشين، مغتبطة به، لم تبالِ بالتّناقض الصّارخ بين هذا الموقف وبين ما يرتفع به ضجيجها عن: الحريّة، والعدل، ودولة القانون، وحقوق الإنسان([6]).
حينما أشار التّقرير إلى مراكز رعاية الأيتام التي كانت تضمّ أكثر من ثلاثين ألف يتيم لم يشر إلى أنّ عددًا كبيرًا من هؤلاء الأطفال بعد أن شرّدوا من مأواهم لم يكن لهم من ملجأ إلاّ إلى تنظيمات أمراء الحروب لتجنيد الأطفال في حروب إفريقية.
أليس من حقّنا عند تقييم الحرب الدّعائيّة الغربيّة ضدّ البذل التّطوعيّ الإسلاميّ أن نصفه بأنّه: ليس مجرّد انتهاك لحريّة شخصيّة للإنسان، بل انتهاك لحقٍّ من حقوقه الأساسيّة ولحريّته في العبادة؟!
مع الأسف الشّديد فإنّ بعض الكتابات في الصّحف المحليّة (وبعض التّوجّهات داخل الإعلام المحلّي) في بلدان الخليج ساهمت -غير مشكورة- في هذا السّلوك الظّالم، وذلك بالإلحاح على تشويه المؤسّسات الخيريّة، وإثارة الغبار حول نشاطها، والتّحريض عليها إمّا من قبل قلّة من الإعلاميّين من المتصحفين الأغرار الذي جمعوا بين الجهل والطّيش وانعدام الإحساس بالمسؤوليّة، أو من قبل قلّة من الأكاديميّين والمتأكدمين، ولكن هذه القلّة مع الأسف مرتفعة الضّجيج مثيرة للاهتمام، وتنطلق من رؤية عامّة متحيّزة ضدّ التّديّن والمتديّنين، وهي إذ تكثر الحديث عن الدّيمقراطيّة، والمشاركة في صنع القرار السّياسيّ، وحريّة الرّأي والتّعبير، وحقوق الإنسان، تتنكّر للحريّة الشّخصيّة إذا بدا أنّ لها علاقة بالتّديّن والمتديّنين، هي مع الأسف تنطلق من نزعة عدميّة؛ إذ تهدم وليس لديها بديل تقدّمه، والأساس في هذا كلّه ضعف النّزوع الأخلاقيّ -في الأبعاد الثلاثيّة للإنسان عند فرانكل- لديها، وهشاشة الإيمان بمبدأ ثابت، وقد نشأ ذلك عن عجز هؤلاء عن الانعتاق من فقر القلب ومرضه، ومن الأنانيّة والنّرجسيّة والتّعالي وبطر الحقّ وغمْط النّاس ومن العجز عن الانفتاح على العالم خارج الذّات بكرم وسماحة.
وبعد، فهل بقي لدى القارئ لبْس في تفسير قبول الغرب للتّناقض الصّارخ بين انتهاكه حريّة المسلم سلوكًا وعبادة وانتهاك حقّه بصفته إنسانًا وبين ضوضائه المرتفعة الضّجيج في التّمدّح باحترام حريّة الإنسان وحقوقه والتّعالي على الآخرين الذين يدّعي انتهاكهم لحريّة الإنسان وحقوقه؟!
وبصفاقة غريبة لا يبالي الغرب بافتضاح “كذبته الكبرى” في تبريره ذلك التّناقض بمنْع احتمال تسرّب أموال للإرهاب، وهو أول من يعرف أنّ بذل المسلم الإنسانيّ من خلال القنوات القانونيّة المكشوفة وسهلة المراقبة والتّتبّع، أي البنوك، يجعل هذا الاحتمال غير وارد.
ما الذي يدفع الغرب إلى السّلوك الهمجيّ المناقض للأخلاق والقيم الإنسانيّة؟ ما الذي يحمله على الضّغوط على بلدان الخليج لتمنع أبناءها من ممارسة حريّة شخصيّة وحقّ إنسانيّ في العمل الصّالح الخالص النّافع، تلك الحريّة التي يمارس مثلها أيّ شخص في العالم، ولا تُحجب عن أيّ مواطن في دولة ديموقراطيّة أو ديكتاتوريّة؟ لا شيء إلاّ مواجهة “غزو” الإسلام للقلوب والعقول. والغرب بغروره واستعلائه يعمى في هذا عن الحقيقة البسيطة أنّ غزو العقول والقلوب –في عصر الاتّصالات التي أسقطت كثيرًا من الحواجز- قوّة لا تعتمد على أسلحة الدّمار الشّامل، وإنّما على ما هو أقوى “قوّة الأفكار العظيمة”.
العبرة من كلّ ما سبق، أن يحسّ كلّ مواطن مخلص لدينه، وصادق الولاء لوطنه وحكومته بأنّه مسؤول عن عمل ما يستطيعه للتّوعية بهذه الحقائق تمهيدًا للعودة بالوطن الحبيب إلى وضعه الطّبيعيّ رائدًا في البذل في سبيل الله، وبأهله لليقين بأنّ البذل في سبيل الله هو الشّكر العمليّ لنعمه عليهم، مشفقين من زوال هذه النّعمة )ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ([الأنفال: 53]، وللأخذ بمعايير الصّلاح والإصلاح التي يطمح لتحقيقها كلّ وطنيّ يتطلّع لترتيب متقدّم لوطنه في السلّم الحضاريّ الإنسانيّ.
وعن المقال كاملاً الرابط التالي
لا توجد تعليقات