(1) من أصداء كتاب سؤال الحضارة:
(مصطلح “الحضارة” بين حضارتين!)
د. فيصل بن علي البعداني
5 ربيع أول 1447هـ
وقع بين يدي البارحة كتاب جديد للمفكر والباحث، د. محمد السلومي، بعنوان: “سؤال الحضارة: في كتابات المفكر معالي الشيخ صالح الحصين رحمه الله”، من مطبوعات دار آفاق المعرفة – الرياض، والذي بحسب ظني، قد وفق فيه الكاتب بإبراز هذا الجانب الهام من فكر فلتة مجتمعه: عمقًا ونضجًا واستشرافا، وفريد زمانه: همة وأفقا وحركةً، وثوري عصره: زهداً وعبادةً وبذلاً وتواضعاً، أعني به الشيخ الحصين – أسكنه الله الفردوس الأعلى من الجنة. ذلك الرجل الذي ظلمه محبوه بعدم إبرازهم لفكره الثاقب وأطروحاته الثرية، وشخصيته الفذة في ساحتي الأمة: الفكرية والتربوية.
وبلا شك، فإن مصطلح الحضارة، الذي يعرج عليه الكتاب ويتناوله من جوانب مختلفة، متداول مشهور بين المفكرين، لكنه ليس بالوضوح الذي يتوهمه كثيرون، إذ يختلف مدلوله باختلاف المنطلقات العقدية والخلفيات الثقافية والاجتماعية. وإذا نظرنا إلى الحضارة في معناها العام، وجدناها جملة ما يبلغه الإنسان من رقيّ في حياته المادية والمعنوية، وما يُشيِّده من نظم وقوانين، وما يقدّمه من معارف وفنون، وما يسلكه من أخلاق وقيم. فهي مركّب يجمع بين الإيمان والمادة، وبين العقل والسلوك.
غير أن تاريخ الإنسانية أبان عن اختلاف وجهة هذا المفهوم وتطبيقاته بين الحضارات. فقد قامت، مثلا، الحضارة الإسلامية منذ فجرها – وهو ما يبرزه الكاتب – على أساس حاكمية الوحي الإلهي المتوافق مع العقل السليم والفطرة السوية، والمرتكزة على ربط العمران المادي بالهدي الرباني، والتي جعلت من القضايا العقدية والقيم الأخلاقية مرجعًا موجّهًا للتقدم العلمي والعمراني. قال الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77]. فالعمران في التصور الإسلامي وسيلة إلى غاية أسمى، وهي عبادة الله وطلب رضوانه، وإذاعة الحق، وإقامة العدل بين عباده.
أما الحضارة الغربية المعاصرة، فقد قامت على أساس مغاير، إذ نشأت في سياق فصل الدين والمرجعية الغيبية عن الحياة، واتجهت إلى جعل الإنسان مركز الكون، تُعرّف الخير بما يراه العقل المصلحي، والحق بما ينتجه الفكر البشري المادي القاصر والمضطرب، والتقدم بما تحققه التقنية والصناعة. فأضحت حضارة ذات بعد مادي غالب، وإن زخرت بمنجزات علمية هائلة، فإن بنيانها يقوم غالبًا على فراغٍ قيمي وعلى نسبية أخلاقية تتحكم بها المصلحة والهوى، ولذا فهي على الدوام متغيرة لا تستقر على حال.
ومن هنا يظهر الفرق الجوهري بين الحضارتين: ففي الحضارة الإسلامية الوحي يقود الحياة، والقيم توجّه الصناعة والتقنية والإنجازات المادية، والغاية أخروية. أما في الحضارة الغربية اليوم: فالمادة تهيمن على المعتقدات والقيم، والمنجز المادي أو العلمي يتجاوز الضوابط، والغاية دنيوية صرفة تصهر الإنسان في خضم قيم الإنتاج والاستهلاك.
ومع رفضنا التام، من منطلق إسلامي، لتغيب مرجعية الوحي الرباني في الحضارة الغربية، وعدم ارتكازها على توحيد الله وحقه بالعبودية والشكر والخضوع، فإن ذلك لا يمنع من الاعتراف بما فيها من تميز مادي وتقدم في العلوم والإدارة والمعارف، ولا يمنع من انتقائنا الناضج المفرق بين نافعها من ضارها، والرافض لما يناقض هويتنا وقيمنا وعبودتنا لخالقنا المليك تعالى. وما لم يتحصن المسلم بعقيدته الربانية وهويته الحضارية، فإنه سرعان ما سينزلق في التبعية الفكرية والمادية المدمرة، كما ذكر ابن خلدون في مقدمته: “إن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب”.
ومن هنا يكون التحدي الأكبر اليوم: أن يدرك المسلم أن الحضارة ليست مجرد أدوات ومنتجات فحسب، بل هي رؤية كلية للكون، وللإنسان، وللحياة في الدنيا والآخرة. وأن إحياء الحضارة الإسلامية لا يتحقق فقط بمجرد محاكاة الغرب في مادياته وجوانب تقدمه، بل بمراعاة الخصوصية العقدية والحضارية لهذه الأمة، وبالجدية في النهوض، وإحياء مساحات التعلم والعمل، وبإعادة وصل العلم بالعقيدة، والنهضة بالقيم، والعمران بالآخرة، بصورة تحفظ للإنسان وظيفته الربانية في هذه الحياة وحقه وكرامته، وتعلي من مسؤوليته، وتربطه بخالقه، وتُقيم العدل، وتصون الحق، وتحيي الضمائر، وتحضّه على الإحسان إلى بني جنسه.
وهذا، بلا أدنى شك، لا يحققه إلا المنهج الرباني الذي يجمع بين الدعوة إلى عمارة الدنيا والعمل للدار الآخرة. والكتاب ثري بإبراز هذه المفاهيم والمعاني للحضارة في كتابات الشيخ صالح الحصين رحمه الله، والتي جمعها المؤلف من أطروحاته وكتبه، بتلخيص ماتع وطرح موجز.
وختامًا، قارئي الكريم، أنصحك بالتعريج على الكتاب، فإنه عميق مفيد. رزقني الله وإياك العلم النافع، والفكر الناضج، والعمل الصالح، إنه جواد كريم.
واللهُ الهادي.
لا توجد تعليقات