Skip to main content

السياسات الغربية بين المصطلحات وتعدد الثقافات – قراءة في كتاب “القوة من النوع الثالث أنموذجاً”

 

(تصفح PDF قراءة جوال)

كُتبٌ كثيرة عن الدبلوماسية وقِيَم السياسات الدولية ونقدها كَتَبَها بعض المنظِّرين والمفكرين في العالم، ومنها كُتب السيناتور الأمريكي بول فندلي ونعوم تشومسكي وغيرها، ولكن ما يهمنا بهذه القراءة وبهذه المجلة الأكاديمية تحديداً هو القراءة في كتاب فريد من نوعه ومثير للقارئ كما وصفه السفير الأمريكي السابق في السعودية وتونس وزائير كاتلر (Walter L. Cutler): أنه كتاب فيه عمق التفكير، مع إثارة فكرية للنخب في العالم النامي لئلا تُستعمر ثقافاتهم المحلية حسب تعبير كاتلر، لا سيما أن الثقافات للدول وفيما بينها ستكون محوراً للتنافس أو الصراع المستقبلي بسبب فَرض ثقافة الغالب بالقوة من النوع الثالث حسب رؤية مؤلف الكتاب، ومن هنا تأتي الأهمية للكتاب في عالم السياسة والدبلوماسية الخارجية.

الكتاب هو لمعالي الأستاذ المفكر والوزير والسفير السعودي هشام محي الدين ناظر (1932-2015م) -رحمه الله- الذي استفاد من دراسته في العلوم السياسية والعلاقات الدولية في مرحلتي البكالوريوس والماجستير بالولايات المتحدة الأمريكية، إضافةً إلى أنه كان مستشاراً في مركز الدراسات الاستراتيجية بواشنطن على مدى عشر سنوات، كما يضاف إلى هذا خبراته الوظيفية عشر سنوات تقريباً في وزارة التخطيط بالرياض، ومثلها في وزارة البترول كذلك، وبعدهما كان السفير السعودي في القاهرة على مدى سبع سنوات تقريباً، وهي جميعاً ما أكسبته المزيد من الخبرة والمعرفة بالسياسة وفنونها، والدبلوماسية وأبوابها ونوافذها.

وعن كتابه فهو (القوة من النوع الثالث – محاولة الغرب استعمار القرية العالمية) الصادر باللغة الانجليزية عام 1999م والمترجم للغة العربية عام 2002م، على يد الدكتور خالد محمد باطرفي، طباعة ونشر مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر.

والكتاب بالرغم من قِدم صُدوره إلى حدٍّ ما، إلا أن معلوماته المعرفية لا تتقادم أو تضعف قيمتها، فهي عن استراتيجيات السياسة الغربية العامة المرتبطة بالهيمنة العالمية من خلال العلاقات الدولية، وهذه السياسات العامة لا تتغير كثيراً أو تتقادم، وكون الكتاب عن رؤية مستقبلية للغرب ودول العالم النامي فإن الاهتمام به يتأكد أكثر، لا سيما أن رؤية المؤلف هي ما يحدث بالفعل في الساحات السياسة العالمية وعلاقاتها البينية إلى حدٍّ كبير، كما أن الكتاب لا يتحدث عن دولة محددة بذاتها، فقد تجنَّب الاسقاطات التي ربما تتقادم مع الزمن، أو تُضعِف القيمة العلمية للكتاب وعمره الزمني.

وتتأكد الأهمية في القراءة للكتاب إلى جانب أنه من دبلوماسي سعودي متخصص، أن لديه ثراء بالعلوم والمعرفة السياسية وثقافات الآخرين، وأن في هذا الكتاب عطاءً معرفياً متميزاً بالتشخيص لدبلوماسية القوة المستقبلية ومصطلحاتها وثقافاتها ودهاليزها، بالإضافة إلى رؤيته في دبلوماسية التعاطي مع هذه السياسات بالنسبة للعالم النامي أو الثالث كما يُسمى، وهي ما يحتاج إلى معرفتها الطالب والأستاذ في العلوم السياسية، وفي الكتاب ما يُفيد الدبلوماسي في أهمية التعامل الصحيح مع مفاهيم القوة والتناقضات العالمية، فالتعامل مع الأقوياء في فرض ثقافتهم على الآخرين يتطلب فهم المصطلحات الأجنبية والوعي السياسي بمخاطر الثقافة الغربية على الثقافات والقيم المحلية للدول، حيث المؤلف يَعتبر الاستجابة لثقافة الأقوياء نوعاً من الاستعمار بقوة النوع الثالث كما يُسميها.

والكتاب زاخرٌ بمحتوياته الكبيرة حول مفهوم القوة والمصطلحات المسخَّرة لتحقيق المصالح للدول القوية دون سواها، وكذلك فيه توصيف عن الواقع العالمي؛ حيث تصادم المصالح المحلية للدول مع مصالح الأقوياء القائمة على مبادئها وثقافتها دون مراعاة للتعددية! وأقوال المفكر ناظر عن المصطلحات وأهمية فهمها لدى الدبلوماسي خاصةً من دول العالم العربي أو الإسلامي أو الدول النامية رسالةٌ ذات قيمةٍ وأهمية لتوضيح التعاطي الأمثل في العلاقات السياسية بين البلدان ومع الغرب خاصةً، ومن ذلك قوله: «يشير مصطلح القوة من النوع الثالث إلى القدرة التاريخية للغرب على استخدام مزاياه الاستثنائية في مجال الاتصالات الإلكترونية الدولية، إضافة إلى ثقله العسكري والاقتصادي والمؤسساتي لفرض قنواته وفكره السياسي على أنه فكر كوني يتسامى على الأبعاد الثقافية القائمة» [القوة من النوع الثالث: ص21]. وهذه الاستثنائية التي وضعها الغرب لنفسه تُعدُّ نوعاً من الاستاذية لفكره وثقافته التي يُريدها أن تكون كونية للعالَم! فضلاً عن إلغاء وتهميش ثقافات الأمم الأخرى وقِيَمها الاجتماعية حتى داخل أوطانها!

ويؤكد ناظر على مخاطر (المصطلح) الناتج من ثقافة آحادية لا تُراعي المشتركات والعدالة الإنسانية، كما يؤكد على أهمية الفهم والوعي السياسي والثقافي بالمصطلحات المطروحة على العالم النامي بقوله: «من السذاجة أن لا نُدرك أن مصطلحات من نوع (الديمقراطية) و(حقوق الإنسان) و(البيئة النظيفة) يمكن أن تُستخدم لتحقيق غايات ومصالح سياسية واقتصادية للعالم الغربي…. يجب أن لا نُغفل بسذاجة احتمالات التأثير السياسي لمثل هذا التلاعب اللغوي على الأمم المتلقية»! [ص39].

والمفكر ناظر لا يكتفي بأهمية الوعي بالمصطلحات المتعددة المطروحة التي منها الأسواق الحرة، وحقوق الإنسان، وأزمات المناخ (البيئة)، بل يُنبِّه بلغته النقدية أن هذه المصطلحات البرَّاقة موضع انتهاك لدى مُصدِّريها بشكلٍ مفضوح، وذلك بقوله: «حيث أُكتُشف مرةً تلو الأخرى أن تصدير اتفاقيات التجارة الحرة، وحقوق الإنسان، وحماية البيئة في الوقت الحاضر مُكْلِف مادياً ومُحرِج عندما كشفت وسائل الإعلام مدى تدهور هذه القيم في نفس البلدان التي تُروِّج لها» [ص43].

ويأتي ذلك في سياق النقد لهذه القوة من النوع الثالث حول هذه المصطلحات، وما يُراد منها من هيمنةٍ على الآخرين في ظِل الدور الخاص الاستثنائي للغرب، والقوة والمكانة الحديثة التي يمتلكها الغرب، والتي يريد منها أن تُفضي أيضاً إلى قبول مفاهيم المصطلحات في سياقات الأحداث المعاصرة لدرجة تسمح بإعطاء الغرب دوره الاستثنائي، باعتباره المُفسِّر للمصطلحات والحَكَم للمفاهيم والحَامي الوحيد حسب تعبيرات ناظر! [ص122].

بل إن المفكر السياسي ناظر يكرر القول داعياً القارئ المهتم والسياسي والدبلوماسي إلى القراءة الفاحصة والوعي الجيد بالمصطلحات الصادرة من دول الغرب ومنظماته وما فيها من ضبابية وغموض، وتَسْيِيس وسحر، وذلك بقوله: «هناك حاجة لتبديد الضباب المحيط بالمصطلحات التي تُعرض باستمرار في سياقٍ مُسَيَّس… فسحر وقوة المصطلحات المعالجة سياسياً يكمن في طبيعتها الغامضة» [ص125-126].

تلك نماذج فقط من كلماته عن أبرز مصطلحات القوة من النوع الثالث، وأهمية الوعي بها والقراءة عنها، لدرجة تتطلب أن تكون ضمن المناهج التعليمية للمتخصصين؛ ليكون التعاطي الأمثل معها تجاه المُصدِّرين لها، فالغرب يتعاطى مع مصطلحات القوة واحترام ثقافته بما لا يُحقق السلام والعدالة الدولية للمجتمعات والدول الأخرى، فمصالحه الذاتية القائمة على مبادئه السياسية والثقافية مُقدمةٌ على غيرها.

وحول (ثقافة) الغرب الغالبة و(ثقافات) الأمم الأخرى، فإن المفكر السياسي السعودي ناظر أولى هذه بالغ الأهمية في الكتاب حينما أخذت مساحات كبيرة من فصوله، فالثقافة لدى مُصدِّري مصطلحات القوة قضية أساسية لا تنازل فيها، ويُعزِّز فَرْضَها على الآخرين أستاذية الغرب للعالم!

وله في هذا طرح صريحٌ وواضحٌ، لا سيما حول السياقات الثقافية للسياسات الغربية المرتبطة بثقافتها، في الوقت الذي لا يريد الغرب للآخرين استخدام ثقافاتهم كأساس في القبول أو الرفض لأي موضوع مطروح من الغرب ومنظماته! وهي الممارسة الاستثنائية التي وضعها لنفسه على الآخرين، وعن هذا يقول: «لقد أصبحت القوة من النوع الثالث حقيقة، وأصبح استخدامها في جدول أعمال يَكْتُب الاستثنائية [الاستاذية] للغرب في أول مساره»، ويكرر ناظر القول منبِّهاً عن مخاطر عولمة الثقافة والمبادئ والقيم الغربية، بل ومحذراً من أخذ الآليات والوسائل الموضوعة من قِبل الغرب! وعن هذا قال: «وتتجمع اليوم القوى الرهيبة التي تملكها الحكومات الغربية ومؤسساتها الحكومية والمدنية بهدف عولمة مبادئها وقيمها، ولكن هذه التجمعات الأيديولوجية ستتعاظم فقط إذا ارتكز العالم النامي في تعامله معها على آليات يصوغها الغرب» [ص174-175].

بل إن المفكر ناظر يطرح تساؤلاً كبيراً عن ثقافة الغرب المهيمِنة وعدوانها على الثقافات الأخرى، فالاعتداء على القِيم والثقافات المحلية يُعدُّ عدواناً على السيادة الوطنية للدول والمجتمعات، حيث أتاحت هذه المصطلحات ومفاهيمها التبرير للغرب للتدخل في أنظمة الدول النامية والعبث بكياناتها، ويتضح هذا من خلال سؤال ناظر: «وهنا يبرز سؤال: بدون الترويج الغربي لمفاهيم الإنسان من خلال ثقافة مُهَيمِنة، هل كان يمكن للدول النامية وحدها استيعاب مصطلحات (حقوق الإنسان) و(الديمقراطية) و(الحكم الذاتي)؟ وهل كانت ستقبل هذه المفاهيم كتبرير للعدوان على مبدأ السيادة الوطنية؟» [ص147].

ويؤكد على النخب في العالم النامي ورجال السياسة والدبلوماسية أن غرب القوة من النوع الثالث لن يترك الآخرين بسياساتهم المستقلة وثقافاتهم بعيدين عن سيادته وهيمنته، بل إن احتياجاتهم ليست ذات أهمية للغرب! وهو ما يتطلب الوعي السياسي والثقافي بهذه النظرة الاستعلائية، وذلك بقوله: «فليس هناك فرصة لأي دولة في عالم ما بعد الانعزالية أن تُتْرك لشأنها. ورغم أن هناك لا مبالاة واسعة لاحتياجات هذه الدول، وأن الوعود التي تُقْطَع لها اليوم تُنسى غداً، إلا أنها بالتأكيد لن تُترك لشأنها» [ص147].

وهشام ناظر الذي يعرض الإشكالية الغربية يعطي في ذات الوقت التوجيهات للأجيال، بأن المواهب والإبداع ليس حِكْراً على أحد، وأن الهوية تتقدم على كل هوية! وذلك بقوله: «أريد لأبنائنا أن يواجهوا التحديات وهم يعلمون بأن كل إنسان يملك موهبة الإبداع… أريد لهم أن يعلموا أن هويتهم الإنسانية تتقدم على كل هوية، فالإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يتخيل مستقبلاً، وأن يملأ حاضراً بالتخطيط الهادف» [ص14].

وإذا كان ما سبق وهو قليلٌ من كثير يصب في خانة التشخيص لدبلوماسية القوة الغربية حول المصطلحات، وحول مخاطر تجاهل التعددية الثقافية للأمم والدول، بل ومحاولة الغائها أحياناً، فإن المفكر والدبلوماسي ورجل السياسة ناظر يُعطي للنخب من العالم الثالث شيئاً من الثقة والاعتزاز بثقافاتهم المحلية، ويؤكد لهم أن ثقافات الأمم لا يمكنها أن تموت! وعن هذا قال: «وعلى النخبة في الدول النامية أن يتلمسوا القوة في أُطُرهم الثقافية، وأن لا يكتفوا بالفضول الثقافي نحوها. ولأن رَكْنَ مثل هذه الأُطُر الثقافية في الرفوف لا يعني أنها ماتت.. كما أن ذلك لا يعني أنها ما زالت تدب فيها الحياة..، فالثقافة في ذاتها وفي محتواها الحقيقي مستودع من التجارب الغنية» [ص171]. وهو بهذا يُعزِّز ثقة الأجيال والدبلوماسيين ورجال السياسة بموَروثِهم وما يحويه من القوة في تعزيز السيادة الذاتية.

بل إن السياسي والدبلوماسي ناظر يطرح ما يُقوِّي الثقة بالنفس أكثر لدى السياسيين وعموم الأجيال، بأن معظم ما يمتلكه الغرب أصبح يمتلكه الشرق من الوسائل المعرفية المشاعة بين الناس والدول إلى حدٍّ كبير، ويضرب لذلك مثلاً: أن عالَم اليوم يعيش سقوط القَنَاعات السياسية السابقة بأن صُنَّاع القرار العالمي أو الإقليمي على عِلم بأمور يجهلها عامة الناس، وذلك بقوله: «غير أننا في زمن تساوى فيه صانع القرار مع الفرد العادي في متابعة الحدث من خلال مشاهدة CNN والتفاعل الفوري مع ما يجري، مما يجعل الناس يشعرون أنهم لا يَقلِّون معرفةً بما يحدث لتكوين رأي بالنسبة لما يرون ويسمعون» [ص157].

وهذا القول وما شابهه من أقوالٍ كثيرة، يرسل الرسالة تلو الأخرى أن أستاذية الغرب الثقافية التي يُسميها (الاستثنائية للغرب) قد ضَعُفت بالوعي المتنامي، أو أنها انتهت حينما انتهى -إلى حدٍّ كبير- الاحتكار للعلوم والمعارف، بل وللإعلام والوعي السياسي العام، قائلاً: إن على العالم النامي أن يحمي نفسه بما تُملي عليه ثقافته وتجربته الخاصة وسياسته المحلية الداخلية، ومما قال: «وليس على المرء بالضرورة أن يُقلِّد التجربة الغربية لإحداث التغيير، ولكنه بحاجة لأن يبني تجربته الخاصة فيه… تستطيع الأمم الأضعف أن تجد مدى أوسع للمناورة بخيالٍ واسع»[ص23، 24].

وأخيراً عن شيء من أهمية هذا الكتاب، فقد كَتَبَ كثيرون من رجال السياسة والفكر والثقافة عنه من شخصيات أجنبية ومحلية، وممن كتب عنه معالي الدكتور محمد عبده يماني -رحمه الله-، وهو ممن راجعه بلغته الأم الإنجليزية حسب ناظر، ومما قال: «ناقشت الكتاب مع مجموعة من المفكرين الذين اطَّلعوا عليه، وكان لهم نفس الرأي، أن هذا الكتاب يستحق أن نطرحه من جديد وأن يُترجم، وأن يكون في متناول يد أساتذة الجامعات والرجال الذين يُخطِّطون لمستقبل البلاد [ص10].

وفي الختام أقول: لقد أجاد أستاذ الفكر والسياسة ناظر حينما أثرى العلاقات الدولية بهذا الكتاب الذي يستحق أن تُعقد له ورشُ عمل وحوارات، ونقاشات، ونشرٍ وتعريفٍ وترجماتٍ متعددة، وإعادة ترجمة وطباعة، إضافةً إلى إمكانية استفادة أقسام الدراسات السياسية في المعاهد والجامعات السعودية وطلاب الابتعاث، فالوعي والمعرفة والتشخيص نصف المعركة الحضارية، أو هي معظم التنافس الحضاري، والكتاب يستحق أكثر من قراءة.

 

د. محمد بن عبدالله السلومي
باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
[email protected]

 

المصدر: مجلة الدراسات الدولية.

لا توجد تعليقات

بريدك الالكتروني لن يتم نشره


الاشتراك في

القائمة البريدية

اكتب بريدك الالكتروني واضغط اشتراك ليصلك كل جديد المركز

تصميم وتطوير SM4IT