6 مارس 2023م
تناول المفكر الشيخ صالح الحُصيِّن -رحمه الله- الحضارتين الغربية والإسلامية في أكثر من كتاب، وأكثر من مقال ومحاضرة، وكان منصفاً وعادلاً حينما كَتَبَ عن مؤهلات الحضارة، ووصف الحضارة الغربية -مع عَرَجها- بأنها ذات هدايا قَيِّمَة ومنجزات مادية ثمينة للبشرية، وذلك ببعض الصناعات والتقنيات، كما أن لدى الغرب جانباً حضارياً في مجال الأخلاق الداخلية المحلية مع شعوبهم مثل قِيَم حقوق الإنسان والعدل والحرية والمساواة أمام القانون، وتتأكد أهمية المعرفة عن حضارة الغرب والاستفادة من سلبياتها وإيجابياتها، لا سيما عندما نَمَا ما يمكن تسميته بالاستغراب (القراءة عن الغرب) وهو الأمر الذي يدعو للمعرفة أكثر عن هذه الحضارة وآلياتها وأدواتها ووسائلها.
وكَتَبَ الحصين بصورة واضحة عن سلبيات حضارة الغرب وأزماتها مع نفسها ومع العالم في قضايا (جذرية) ذات مخاطر على العالم، ويُعدِّدها بقوله: «والمفروض أن نحاول أن نستفيد منها إلى أقصى حد ممكن، لكنها مع الأسف من جانب آخر أوجدت لدى العالم ثلاث أزمات لا تزال تَتعَقَّد ولا تُحل، فطوال هذه القرون صارت هذه الأزمات تتراكم، ثلاث أزمات هي سر شقاء الإنسان الآن، وسر العَنَت الذي يعانيه، وسر الحياة الضنك التي يعانيها بالرغم من كل وسائل السعادة» [محاضرة أزمة الحضارة المعاصرة].
ويُفصِّل الحصين عن هذه الأزمات التي تُفسد تلك الهدايا -حسب رؤيته- بأنها (الأزمة الروحية والأخلاقية) حيث انعدام الإيمان الذي يُفقد معنى الحياة وسعادتها ونظافتها. و(الأزمة السياسية) حيث العلاقات الدولية فيها تقوم على المصلحة الذاتية والقوة! وما يترتب عليها من صراعات وحروب. ثم الأزمة الثالثة وهي (الاقتصادية) التي يُنظر إليها أنها مصدر التحضر والحضارة، حيث يقول عنها: «قد تكون هذه الأزمة [الاقتصادية] أساساً لهذه الأزمات، والحقيقة أننا لا ندري أين السبب وأين النتيجة، فكل أزمة منها سبب لآخر ونتيجة له في نفس الوقت. من عهد آدم سميث وطوال مائتي سنة الماضية عَجِزَت الحضارة الغربية، وبالتالي ما نسميه الآن بالحضارة أو الثقافة العالمية المعاصرة عن حل» [محاضرة أزمة الحضارة المعاصرة].
والحصين قد ركَّز ببعض مقالاته وكُتبه على (تاريخ الغرب) وما لديه من تعصب وعدم تسامح مع الإسلام والمسلمين عبر التاريخ مما يُضعف صفة التحضر، كما كَتَبَ عن واقع الحضارة الغربية المعاصرة مع البشرية بافتعال الصراعات والحروب الحديثة! وهذا مما يُناقض معظم الصفات الحضارية؛ حيث أن سياسات الغرب عبر التاريخ مليئة بأحداث احتلال البلدان وما فيها من وحشية ودموية، والحصين في هذا الشأن ينقل عن مؤرخين ومفكرين غربيين طالما نقدوا تاريخ الغرب المملوء بالكراهية والتعصب والهمجية وقتل الآخر من غيرهم، وبالمقابل كثيراً ما أشادوا بحضارة الإسلام والمسلمين.
ففي كتابه (التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب) ينقل من مؤرخين غربيين مُنصفين عن تاريخ الغرب الأوروبي غير الحضاري، وقد أورد بهذه النقولات بعض المفارقات الكبيرة في المقارنة بين تاريخ الغرب وهمجيتهم وحضارة الإسلام ورُقي المسلمين، ومما قال: «وقد لفتت هذه المفارقةُ في السلوك الحربيّ بين المسلمين وغيرِهم انتباهَ عددٍ من الكتّاب الغربيين، ومن ذلك ARTHUS GILMANإذ يقول: “بالمقارنة -على سبيل المثال- بفظاعات الصليبيين حينما سقَطت القدس في أيديهم عام 1099م حيثُ قتَلُوا سبعين ألف مسلم رجالاً ونساءً وأطفالا، فإنّ انتصارَ محمد كان دائماً محكوماً بأخلاقيات الدين لا بالانتهازية السياسية”» [التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب، ص196].
ويستطرد الحصين في حديثه بشيءٍ من المقارنة بين سلوك المسلمين الحضاري المتصف بالعفو والتسامح في الحروب مع غيرهم، مُذكِّراً بممارسات الغرب المشينة عبر تاريخهم -كأنموذج- ناقلاً من أحدهم، وهو DERMENGHEM حيث يقول: «”لقد نجحوا (المسلمون) لأنهم كانوا فعلاً يستحقُّون النجاح، لقد انتصر الإسلامُ لأنه قدَّمَ رسالةً يحتاجُ إليها العالم الغربي، لقد تحمَّل المسلمون في البداية الاضطهاد دونَ مقاومة، وبعد ذلك حينما قاوَمُوا وانتصروا أبْدَوا من ضروب التسامح ما هو جديرٌ بالاعتبار, لقد مُنِح اليهودُ والنصارى بدفْعِهم الجزيةَ الحماية الكاملة، ومُنِحت لهم الحريةَ في ممارسة معتقداتهم، واعتُبروا جزءًا من نسيج المجتمع،… يجبُ أن نعترف بأنّ العكس حصل فعلاً عندما دخل الصليبيُّون القدس، حيث تقدَّموا يخوضون في نهرٍ من الدم، مصمِّمين على أن يقطعوا رقابَ جميع المسلمين، لقد قال روبرتسون (المؤرخ الإنجليزي): إنّ أتباعَ محمّد هم المتدينون الوحيدون الذين مَزجوا التسامُحَ بالحماس الدينيّ”» [التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب، ص196-197].
لقد كانت الجزية التي يدفعها غير المسلمين لدولة الإسلام آنذاك مثار إعجاب وتقدير، بل وإكبار واحترام من هؤلاء المؤرخين الغربيين المُنصِفين، حينما وَصَفُوا: تَمتُّع اليهود والنصارى بحريتهم الدينية، وكانوا بهذه الجزية ضمن نسيج المجتمع بأمنه وسلامه كما هي تعبيرات هذا المؤرخ.
ويُكرر الحصين النقولات الكثيرة عن مؤرخي الغرب بمقارنة الجوانب الحضارية بين قِيَم المسلمين وممارسات الصليبيين آنذاك بما يُوضِّح حال المعنيين بالتحضر والحضارة ومن الذي أخصب الأرض! ومن الذي دمَّرها! وعن هذا أورد قول بودلي R.V.C.BODLEY: «عندما غزا الصليبيون القدس في عام 1099م تركوا الموتَ والخراب حيثما مرُّوا، ولكنْ عندما هزَم صلاحُ الدين الصليبيين لم يتّخِذ أيَّ إجراءٍ انتقاميّ، وكذلك لم يدمِّرِ المسلمون البلْدانَ التي غزَوْها كما فعل المحاربون من أصحاب الديانات الأخرى، حيثما مرَّ المسلمون خلَّفُوا شيئاً أفضلَ مما كان في السابق, كانوا مثلَ السحاب المنهمِر أخصَبُوا الأرضَ التي كان الآخَرون خلَّفُوا فيها الجدْبَ والخراب”. كما قال ألكسندر ALCSANDER POWELE: في انتصارات المسلمين الحربية أظهَروا درجةً من التسامح أخجَلَتْ كثيراً من الشعوب المسيحية”» [التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب، ص197].
والحقيقة أن هذه الأقوال من مفكرين ومؤرخين غربيين متعددين محرجة حقاً ليس للشعوب النصرانية فحسب، بل لبعض المنافقين والمنتسبين للإسلام ممن ينعتون الإسلام والمسلمين بالتعصب والعنف والكراهية وعدم التسامح! مع أن العكس هو الصحيح، وهذه الاستدلالات من الحصين، كما أنها تكشف عن المعاني الكبيرة للتحضر والحضارة -وإلى أي مدى توجد لدى الطرفين!- فهي تعكس كذلك عُمقه الفكري وقراءاته الواسعة عن تاريخ الغرب والتاريخ الإسلامي كما هي عن الحضارة أو المدنية المعاصرة.
التقدم المدني الحديث:
بعد هذه النقولات والاستدلالات السابقة من الحصين وتعليقه على (تاريخ الغرب) وماضيه غير الحضاري، جاء حديثه عن مظاهر التقدم المدني الغربي الحديث، وقد أورد في مقاله (تعليق على الحضارة والتقدم) شيئاً من واقع الحضارة الغربية المعاصرة التي تُغلِّف جرائمها ببعض جوانب التفوق التقني والمنافسة الصناعية، ليكشف لنا بفكره المنطقي الفكري بأنها حضارة مُزيَّفة أسهمت بشقاء الإنسان الغربي وتدمير غيره إلى حدٍّ كبير، فيقول عن هذا: «بغضِّ النظر عن نسبية قِيَم هذه الحضارة الغربية المعاصرة وأخلاقياتها، فإنها لا شكّ لم تجعَلِ الحياةَ أَسْعَد، حتى في بني قومِها؛ فالإنسانُ المعاصر المتأثِّرُ بهذه الحضارةِ هو أقربُ إلى (المعيشة الضنك) من (الحياة الطيبة)، وهو أقربُ إلى التوتُّر النفسيّ من الرضا النفسيّ، أو الشعور بالاكتفاء» [مقال تعليق على الحضارة والتقدم].
ويُضيف الحصين ما يراه يُسقط عن الغرب حضارتيه وتحضُّره بقوله: «إضافةً إلى ما تسبَّبتْ فيه هذه الحضارةُ من كوارثَ وفواجِع, وظُلم, وسَفْكٍ لدم الإنسان, وإفسادٍ في الأرض؛ لا يَغيب عن البال أنّ هذه الحضارةَ أَشعلَتْ حربَيْن عالميَّتَين في خلال 25 سنة، قُتل فيها سبعون مليون من النساءِ والأطفالِ وغيرِ المقاتلين! وإنّ قتْلَ مائةِ ألف شخصٍ في ليلة واحدة بدافعِ الحقْدِ والانتقام، ودكَّ مدينةٍ مثل (درسدن) Dresden الألمانية للهدف نفسِه من الصعْب أن نصنِّفَه بأنه نتيجةُ تنويرٍ أو عقلانية, أو تحضُّرٍ أو إنسانية! أمّا ما استَهلَّ به هذا القرنُ من حروبٍ لهذه الحضارة فلا يَحتاج إلى تذكير» [مقال تعليق على الحضارة والتقدم].
ولهذا فالحضارة المادية المعاصرة باقتصادها وصناعاتها وحروبها لم تكن تهدف إلى إسعاد البشرية، بقدر ما أنَّها ناتجة من دوافع تجارية اقتصادية محمومة! بل إن معظم وسائلها جَلَبَت الشقاء والنكد والتعاسة النفسية والحياتية للبشرية -كما يقول- الحصين.
وحول هذا الجانب تحديداً حاضَرَ الحُصين، بل وكَتَبَ في كتابه (العلاقات الدولية) بعنوان: (ماذا يمكن، أو ما يجب أن يُعمل) تجاه مساوئ الحضارة الغربية وقِيَمها، ومما قال نقلاً عن غربيين: «لاحظ برتراند رسل أن الغرب أهدى للشرق مساوئه: القلق وعدم الرضى والروح العسكرية والإيمان الغالي بالآلة. ولكن الدول القوية في الغرب تحاول دائماً صرف الشرق عن أفضل ما لدى الغرب روح البحث الحر، والتعرف على الظروف التي تؤدي إلى الرفاهية التامة، والتحرر من الخرافة» [العلاقات الدولية بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة، ص91].
ولهذا فهي حضارة تفتقد لمعظم (مؤهلات الحضارة) لمساوئها المرتبطة بالإنسان وشقائه، كما عبَّر عن هذا الحُصين في (المؤهلات الحضارية الخمسة) التي هي باختصار: أن تكون حضارة إنسانية، وأن تكون حضارة شعبية عامة، وذات إمكانيات متاحةُ، مع القدرة على خلق إمكانيات جديدة، وأن تكون حضارة مُتجددة لا تموت.
والحصين بعد هذا الكشف والتوضيح يُحاكم الحضارة الغربية (المدنية المعاصرة) إلى المعايير السابقة الخمسة التي سمَّاها (المؤهلات العامة للحضارات)، فَتَضْعفُ بهذه المؤهلات أو ببعضها دعاوى قِيَم (الإنسانية) و(التسامح) و(العدالة) و(حقوق الإنسان) من خلال واقع الغرب المتعصب وصناعته لكثير من الصراعات والحروب وسفك الدماء في أنحاء العالم، ثم سرقة ثروات العالم وإفقاره وظُلمه وانتهاك حقوقه! وغير هذا من صناعة الموت بالأزمات والكوارث وأسلحة الدمار الشامل مما يتنافى مع القِيَم الحضارية.
وحول المدنية الغربية المعاصرة ومدى التحضر أو التمدن فيها، فالحصين بعد أن ذكر المؤهلات العامة للحضارات بمقالته، أو كما سماها المؤهلات الخمسة لأي حضارة للحكم عليها بأنها حضارة بالفعل، شَرَعَ بمحاولة التطبيق والقياس على الحضارة الغربية المعاصرة، قائلاً – بعدالة وإنصاف وبإيجازٍ مفيد-: «ولو طبَّقنا هذا المقياسَ على الحضارات المختلفة لربما كان مقياسًا عادلاً، ولو أَخَذْنا آخِرَ هذه الحضارات كمثال، فيُمكن القول بأنّ الحضارةَ العالمية المعاصرة (الغربية – الأورو أمريكية) يتوفَّرُ لها مؤهِّلُ الاستفادة الكاملة من الإمكانيات المتاحة, ومؤهِّلُ خَلْق إمكانيات جديدة، والقدرة على تحقيق ذلك إلى حدٍّ كبير، وبصورة نسبية يتوفَّر لها مؤهِّل أن تكون حضارة يشترك في وجودها وتجديدها السوادُ الأعظم من المجتمع، أي أن تكون حضارةً (شعبية)، ولكنها (غيرُ محصَّنة ضدَّ عوامل الفَناء) كما أشار أرنولد تُوينبي، كما أنه من الصعْبِ وصفُها بـ(الإنسانية) رغم ما قدَّمَت للإنسان من تسهيلاتٍ مادّيةٍ في الحياة, ومن إعلانِ شعارات قِيميّة وأخلاقية»[مقال تعليق على الحضارة والتقدم].
والحصين بهذا لا ينفك حديثه من المقارنة بين حضارة الغرب المادية وحضارية الإسلام الأخلاقية كشأن كثير من المؤرخين الغربيين المنصفين، كما أنه بعد هذا التشخيص الواضح عن ضعف قِيَم التحضر في التاريخ الغربي، وما تلاه من فترات التقدم المادي المعاصر، يستأنف حديثه عن الحضارة الإسلامية وما فيها من كرامة للبشرية وما يسودها من المثالية، وذلك بعد المقارنة مع الحضارات الأخرى وفق المعايير والمؤهلات السابقة، وهو ما يتطلب قراءة أخرى.
وفي ختام هذا الموضوع عن قِيَم التحضر والحضارة الغربية تتأكد أهمية البحوث والرسائل العلمية الجامعية عن تحرير هذه المفاهيم، كما أقول عن الشيخ المفكر أن طروحاته العلمية والفكرية -والذي سبق يُعدُّ أنموذجاً منها- تبعث على الاعتزاز بالهوية الدينية والثقافية التي تُشخِّص الآخرين وثقافاتهم ولا تمنع من الاستفادة منهم، وفي هذا ما يوجب على الأجيال والمثقفين والمفكرين تقديم الحصين مُفكراً على مستوى العالم لطروحاته الفكرية المتنوعة، وهذه الأفكار والنقولات وما شابهها مما يؤكد أن بلاد الحرمين (السعودية) كما أنها تُخرِّج علماء وفقهاء، فهي تُقدِّم كذلك مفكرين من أصحاب الرؤى الشرعية. والله من وراء القصد.
د. محمد بن عبدالله السلومي
باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
[email protected]
المصدر: (صحيفة مكة)
لا توجد تعليقات