13 صفر 1445هـ.
أجاد المفكر الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين -رحمه الله- في نقله نصوصاً غربيةً كثيرة مُنصفة ومتنوعة تعكس شيئاً من التنافس الحضاري حول هل كان تقدم المسلمين تاريخياً بما هو أكثر وأهم من التقدم المادي والصناعي؟ خاصةً في عصور سيادة الإسلام وأهله، وهل بهذا يكون التخلف والتأخر عند غيرهم؟ وكان مما أورده الحصين في كتابه (الأقليات المسلمة في مواجهة فوبيا الإسلام) بعض النقولات من المقارنات بين حضارة الإسلام ومدنية الغرب المعاصرة، ومما قال عن العلم والعدل والإحسان لدى المسلمين، وهما من أبرز الصفات الحضارية التنافسية لأي أمة، وذلك نقلاً عن المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون: «الإسلامُ من أكثرِ الديانات ملاءمةً لاكتشافات العلم، ومن أعظمِها تهذيباً للنفوس، وحملاً على العدل والإحسان والتسامح» [الأقليات المسلمة في مواجهة فوبيا الإسلام: ص18].
كما نقل عن لوبون الكثير من أسئلة الحضارة وحول التنافس والمنافسة من خلال تسامح المسلمين وطبيعة فتوحاتهم، وعن ما يُعدُّ من أبرز قِيَم التحضر والحضارة لدى المسلمين، وهو بقاء حضارة الإسلام بِقيَمها حوالي أربعة عشرة قرناً من الزمان بالرغم من زوال سلطان المسلمين السياسي، وذلك بقوله: «الحقُّ أنّ الأمم لم تعرِف فاتحين متسامحين مثلَ العرب، ولا ديناً مثلَ دينهم. وما جهِلَهُ المؤرِّخون من حلْمِ العرب الفاتحين وتسامُحِهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سُهولةِ اعتناق كثيرٍ من الأمم لدينهم ونظُمِهم، ولُغتهم التي رسَخَتْ،
وقاومت جميعَ الغارات، وبقيَتْ قائمةً حتى بعد تواري سلطانِ العرب عن مسرَحِ العالم» [المرجع السابق: ص18].
كما قال لوبون فيما نقله الشيخ الحصين عنه بصورة المقارنة والتفضيل الحضاري حول قِيَم المسلمين ورُقيهم في القيم والأخلاق، بل ومنافستهم لغيرهم من أرباب الحضارات الأخرى بما هو أولى من التقدم الصناعي: «وكانت أخلاقُ العرب في أدوار الإسلام الأُولى أرقَى كثيراً من أخلاقِ أُمَم الأرض قاطبةً، ولا سيما الأمم النصرانية، وكان عدلُهم واعتدالُهم ورأفتهم وتسامحُهم نحوَ الأمم المغلوبة ووفاؤُهم بعهودهم ونُبْلُ طبائعِهم مما يَستوقِفُ النظَر، ويُناقِض سلوكَ الأمم الأخرى، ولا سيما الأمم الأوروبية أيام الحروب الصليبية» [المرجع السابق: ص18].
ومن نقولات الحصين عن حضارة المسلمين، ومقارنتها أحياناً بحضارة أوروبا المادية المعاصرة وجوانب المنافسة بين الحضارات! ما أورده كذلك في مقاله المعنون (تعليق على الحضارة والتقدم)، فقال ناقلاً عن شهادات غربية من منصفين عن دين الإسلام ونظامه، وعن حقيقة الحضارة، لا سيما في علاقات المساواة والأخوَّة، والقِيَم الاجتماعية والعلاقات السياسية التي لا تقارن قيمتها الكبرى بجوانب التفوق المادي والتقني، حينما أوضح بأن التحضر والحضارة ليس الجانب المادي فحسب: «كَتَبَ المؤرخ الروائي الإنجليزي المشهور هربرت جورج ويلزH. G. Wells في كتابه (مخطط التاريخ The Outline Of History) 1920م، ص326: إن أعظم ما اجتذب قلوب غالبية الناس عندما جاء محمد بدين الإسلام، هو فكرة الإله: الله … [وذلك] في عالم كان مملوءاً بعدم اليقين والزيف والانقسامات المتعصبة، فانفتح أمامهم باب واسع للأخوَّة البشرية العظيمة والمتنامية وإلى فردوس لا يحتل فيه القدِّيسون والقساوسة والملوك المكان الأعلى، وإنما تتحقق فيه المساواة بين أتباع الدين، بدون رمزية غامضة، أو طقوس ظلامية، أو ترانيم قِسِّيسين، قَدَّم محمد تلك النظم الأخلاقية إلى قلوب البشرية» [مقال تعليق على الحضارة والتقدم].
وعلى مستوى الجانب المهم والكبير في التنافس الحضاري، وهي القِيَم والنُظم كتب عن التفاضل بين الحضارات، ونقل الحصين من الأقوال ما يوضح الفوارق بين حضارية الإسلام وغيره، ومن ذلك قول ويلز: «الإسلام أوجد مجتمعاً تحرَّر من القسوة والاضطهاد الاجتماعي إلى درجة لم يبلغها أي مجتمع من قبل. والإسلام انتشر وسَاد؛ لأنه قدَّم للإنسان أفضل نظام سياسي واجتماعي يمكن أن يمنحه الزمان، هذا النظام الذي يُمثِّل أوسع وأنقى وأنظف فكرة سياسية أمكن حتى الآن أن تُطَبَّق عملاً على الأرض» [المرجع السابق].
والحصين بهذا النقل المعبِّر عن حضارة الإسلام المنافِسة بالقيم والأخلاق والنظم، يؤكد على ما تصنعه قيمة (الأُخوَّة) مثلاً من حب وتراحم وتعاطف وتسامح ومساواة غاية في التحضر والرقي، وبصورة فريدة من نوعها لا توجد لدى الأمم الأخرى، بل إن هذا المؤرخ الروائي ويلز بوصفه للجانب السياسي المضيء لدى الإسلام والمسلمين يوضِّح عدم انتشار الإسلام بالقوة أو السيف -كما يُزعم-، وكأنه بهذا يقارن مع الجانب الأقل لدى غيرهم، وذلك بقوله السابق: «إن الإسلام انتشر وسَاد لأنه قدَّم للإنسان أفضل نظام سياسي واجتماعي.. إلخ» [المرجع السابق].
كما يتناول الحُصين خاصيةَ حضارية أخرى، وهي ما قدَّمه المسلمون للأقليات والديانات الأخرى في ظل حكم الإسلام وعدالته من حقوق وعدل وتسامح مع الآخرين، وهي معيار كبير من معايير الحضارة والتقدم، وهي كذلك القضية التي طالما جعلها أعداء الدين من المنافقين وغيرهم قضية عائقة عن إمكانية تطبيقات قِيَم الإسلام في عصور سيادة الحضارة الغربية! وقد نقل الحصين من المؤرخ الفرنسي ول ديورانت في كتابه (قصة الحضارة) عن الحريات وحقوق الأقليات في الإسلام، ولدى دول المسلمين المتعاقبة عبر التاريخ، ومما قال ديورانت عن هذا الموضوع: «وكان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحَّبوا بالعرب الذين حرَّروهم من ظلم حكامهم السابقين … وأصبحوا يتمتعون بكامل الحرية في حياتهم وممارسة شعائر دينهم … وأثْروا كثيراً في ظل الإسلام في آسية ومصر واسبانيا كما لم يُثْروا من قبل تحت حكم المسيحيين، وكان المسيحيون في بلاد آسية الغربية -خارج حدود الجزيرة العربية- يمارسون شعائر دينهم بكامل حريتهم» [المرجع السابق]، وفي هذا النص وما يماثله ما يوجب الوعي بحقيقة حقوق الإنسان بين الإسلام والغرب، بل وفيما بين ممارسات المسلمين وغيرهم.
بل إن الحصين وهو يتناول هذه المسألة الحضارية بالدراسة عنها وعناصر المنافسة فيها ينتقل إلى عنصر من أهم عناصر الحضارة عامةً، لا سيما عنصر (الإنسانية) التي تتباهى بها حضارة الغرب أو مدنيته المعاصرة، وتتفاخر بها على غيرها من الحضارات، بل وتُزايد بهذا الشعار، علماً أن (الإنسانية) عند المسلمين عبر عصور تاريخهم قيمة كبرى، فهي معنية باحترام الإنسان وحقوقه التي هي عقيدة وديانة في الإسلام، وهي تكريم للإنسان بأكثر من مفهوم الحقوق الذي تفوَّق به المسلمون على غيرهم حول مدلول الحقوق ومفاهيمها ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ (الإسراء:70)، مع احتفاظ هذه الحضارة المسلمة بسِرِّ البقاء والصمود لكرامة الإنسان وحقوقه أمام الحضارات الأخرى، وهي ميزة كذلك.
ومما نقله الحصين -كأنموذج- حول كرامة الإنسان وحقوقه أياً كان، ما ورد من قصة خالد بن الوليد حينما كتب لأهل العراق من عهد وميثاق حول أهل الذمة: «وجعلتُ لهم أيَّما شيخ ضَعُفَ عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيا فأفتقر…وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طُرِحَت جزيته وعِيل من بيت المال وعياله، ما أقاموا بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النفقة عليهم (أبو يوسف في الخراج، ص 144)» [المرجع السابق].
ووصل التحضر والرقي المدني لدى المسلمين -تشريعاتٍ وممارسةً- أن عمر بن عبدالعزيز أصدر أمراً عاماً يُطبَّق على كل أهل الذمة في دار الإسلام كما ورد: «وانظر من قِبَلك من أهل الذمة فمن كَبُرت سِنُّه وضعفت قوته وولَّت عنه المكاسب فَأجْرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يُصلحه (ابن سلّام في الأموال: ص 45-46)» [المرجع السابق]، وهي نماذج تُقرر التزام المسلمين بما ورد في كُتب الفقه كجزء من النظام العام للمسلمين وما فيه من المبادئ الإسلامية والأحكام الشرعية حول حقوق الإنسان وكرامته.
ومفاهيم الحضارة عامةً -بهذه النقولات الأجنبية وغيرها- أكبر من أن تُحصر أو تُوصف وتُختزل في جوانب الصناعة أو التقنية أو علمائها فحسب كما هي الحضارة المعاصرة! وكما قال الحصين ونَقَلَ كذلك، بأن هذه القِيم الإسلامية بَقِيَت بعد زوال سلطتهم السياسية أو العسكرية، وهو ما يدل على أنها قِيَم حضارية لا تموت، ومعيار العمل بهذه القيم وبقاؤها أزمنة طويلة وأعماراً مديدة دون سلطان وقوة، أو قانون وإلزام يُعدُّ من أبرز معايير أي حضارة، خلافاً لحضارة الغرب المادية المعاصرة التي تحتاج إلى نظام وسلطة وقوة لفرضها!
خصائص حضارية أخرى:
كتب الحصين خلاصة موجزة عن منافسة حضارة الإسلام وتحضر أهله في نهاية مقاله (تعليق على الحضارة والتقدم)، وكان مما أورده من كلمات واستدلالات ما يُزيح به الهزائم النفسية والفكرية لدى كل مسلم يبحث عن الحقيقة حول حضارة الإسلام وحضارية أهله، التي كانت بالفعل سائدة ومهيمنة لبعض العصور. وأضاف بأنها أَسْعَدت البشرية بانفتاحها في مواقع وجودها بصور متنوعة من التجديد والتحديث، ومما أورده الحصين حول بدايات وجود الحضارة الإسلامية أنها أظهرت انفتاحاً حضارياً بالاستفادة من الآخرين في بعض الجوانب المادية والإدارية، فبالإضافة إلى الإمكانيات الموجودة لدى المسلمين فقد نشطوا في الاقتباس من الإمكانيات الموجودة لدى الآخرين، ومما قال في هذا: «كان اقتباس المسلمين في عهد عمر بن الخطاب (تدوين الدواوين) كمثال لانفتاحهم على الآخر واقتباس كل ما هو نافع، وأبدوا قدرة على التفكير وعلى الاستشراف (لإيجاد إمكانيات جديدة)، على سبيل المثال: اختراعهم (نظام البريد)، حينما وجَّه عمر بن الخطاب عُمَّاله إلى الأقطار التي صارت تمتد وتتباعد عن مركز الإدارة بأن لا تغيب شمس يوم إلا وعنده خبر منهم، فأوجد نظام البريد حيث يصل الخبر بأقصى سرعة ممكنة -وكانت في ذلك الوقت هي سرعة الخيل- من مصدر الخبر وحتى منتهاه» [المرجع السابق].
والحصين في مقاله (تعليق على الحضارة والتقدم) وهو يوضح حقيقة الحضارة الإسلامية المُنافِسَة يُبين الخطأ الشائع الذي يرتكبه بعض الغيورين من الاختزال لحضارة الإسلام بجوانب مادية من الاختراعات أو بناء المدن والمنشآت، أو نبوغ بعض العلماء من المسلمين من الباحثين في الفلسفة أو العلوم التطبيقية وعلوم الطبيعة قائلاً: «لا نكاد نجِدُ باحثًا في الحضارة الإسلامية سواءٌ من المسلمين أم من المحايِدِين من غيرِ المسلمين إلّا ويتكرَّرُ على أقلامِهم صورٌ منتقاةٌ من تطبيقات الحضارة الإسلامية، تُشير إلى (مؤسسات): دار الحكمة. أو (شخصيات): الفارابيّ، والرازيّ، وابن سينا، وابن رُشْد. أو (منشآت): الحمراء، وتاج محلّ. فهل هذه فعلاً (الحضارة الإسلامية) مختزلة؟َ! وأنّ الباحثِين نقَّبُوا في أكوام التراب فانكشفَتْ لهم هذه (الجواهر الثمينة) من صُوَر التحضّر والتقدّم! بل هل هي أبرَزُ ما في تطبيقاتِ الحضارة الإسلامية! بل هل هي فعلاً صوَرٌ بارزةٌ من تطبيقات الحضارة الإسلامية؟» [المرجع السابق].
وأقول: من الواضح أن معايير التحضر لدى الغرب -بمفكريه وساسته ومثقفيه وعامتهم- كان ولا يزال قياس حضارتهم بتقدمها المادي الصناعي والتقني والعمراني، وظاهر أن رد الفعل جاء من بعض الغيورين من المسلمين بقولهم: (المسلمون هُم الأساس العلمي والحضاري لهذا التقدم المادي)، دون استشعار للمفاهيم الكبيرة للحضارة والتحضر، ودون استحضار للقيم الحضارية العظيمة في دينهم الإسلام كما سبق.
والحصين كذلك في مقاله (تعليق على الحضارة والتقدم)، يؤكد بقناعته الفكرية وإقناعه المنطقي العقلي تميُّزَ حضارة الإسلام، وأنها أكبر من أن تُختزل في تلك الصور النمطية المادية المنتقاة، بل إن خاصية محركاتها أهم، وذلك بما تمتلكه حضارة الإسلام من كتاب لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه، وما فيه من تشريعات وضوابط للحياة بعلاقاتها الأسرية والاجتماعية والدولية، وما يصحب هذا من قِيم وثوابت مكَّنت للانتصار السياسي والحضاري الذي ساد العالم بعدالة وسلام وتسامح لفتراتٍ طويلة من التاريخ، حيث يقول: «إنّ الحضارة الإسلامية لها دوافعُها وموجِّهاتها وغاياتها، لا يَظهرُ أنّ أحداً يُنكر أثرَ الدِّين أو التأثيرَ الإسلاميّ على الحضارة الإسلامية؛ فالقرآنُ هو المحرِّك الأول والرئيسُ والباعث لهذه الحضارة، وهو موجِّهٌ لسلوك المسلمين لاسيّما في العصور الأولى للحضارة الإسلامية، وهو الذي يرسُم الغايةَ من الحياة ومن العمل بها لكلِّ مسلم» [المرجع السابق].
وحول الخصائص الحضارية المُثلى في الإسلام وحضارته المنافسة المتميزة عن غيرها من الحضارات بما يفوق المدنيات والصناعات والماديات، وبما يتجاوز الاختزال لها في جوانب علمية أو عمرانية أو مدنية فقط، يقول الحُصين مضيفاً بشيء من التفصيل والمقارنة عن جوانب مهمة من هذه المنافسة الحضارية: «وفيما عدا الحضارة الحديثة لا توجد حضارة شارك أفراد المجتمع في بنائها وتسييرها -على سبيل المثال الباذلين المتطوعين- كالحضارة الإسلامية، فهي (حضارة شعبية) كما أوضحنا، وهي أيضاً (إنسانية) تتميز بهذه الصفات عن الحضارات الأخرى، وأثبت الواقع (مناعتها وقدرتها على مقاومة عوامل الهدم والفناء)» [المرجع السابق].
ولعل في هذه النصوص المقتبسة -وهي قليل من كثير- ما يساعد على فهم القارئ أو الباحث طبيعة المنافسة الحضارية وسؤال الحضارة المتكرر في كتابات الغرب والمسلمين، بل وعن حقيقة التحضر والحضارة في عصر أصبحت الأجيال بأمس الحاجة إلى فهم هذه الفروقات الجوهرية في التنافس الحضاري بين الأمم وثقافاتها، وبين عدالة وتسامح وحضارية الدين الإسلامي والأديان والثقافات العنصرية المتعصبة.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
د. محمد بن عبدالله السلومي
باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
[email protected]
المصدر: (صحيفة مكة)
لا توجد تعليقات