– مدخل:
عُرف عن عموم النصارى بعض الطبائع النفسية، وبعض القيم في العطاء، وهي ذات جذورٍ تاريخية ترتبط في غالبها بالديانة، وقد لَفَت الانتباه إلى هذه الطبائع الفطرية القديمة لدى الروم النصارى آنذاك الصحابي الجليل عمرو بن العاص حينما قال عنها في الأثر الموقوف: «إنَّ فيهم لَخِصالًا أربعَ: إنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ، وخامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ المُلُوكِ»().
وهذه الخصال تُعدُّ (صفات وطبائع ذاتية في حروبهم)، وأخرى (قيم أخلاقية في حياتهم). وهي بمجملها تؤهل للهيمنة والقوة عند الروم سابقاً، ولدى الغرب لاحقاً، لا سيما أزمنة الاحتلال البغيض لمعظم دول العالم الإسلامي، وكذلك ما بعد الحرب العالمية الثانية 1945م. وهذا من الاستقراء والاستنتاج الناشئ عند عمرو بن العاص -حول الطبيعة الرومية- سواءً من خلال احتكاكه مع روم الشام ومصر النصارى، أم السماع عنهم أثناء تجارته مع هذه البلاد.
– تحرير المصطلح:
إن أول ما يتبادر إلى الذهن عند تحرير المصطلح: التساؤل عن المعني بالروم في الأثر المروي عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- هل المقصود بهم جنسٌ بشريٌّ مُعيَّن؟ أم المقصود أرباب الدين النصراني بتحريفاته آنذاك؟ وهل هذا الوصف ينطبق على الغرب اليوم بعد التخلي عن دينهم وما فيه من قِيَم أخلاقية واجتماعية؟ فالوصف عموماً لا إشكال فيه، لكن إسقاطه الدائم على جنس مُعين إشكالية تاريخية تتطلب البحث والدراسة.
ومما يلحظ هنا أن لفظة “الروم” لم تكن تطلق تاريخياً على روم الفرنجة فحسب، بل على كل من كان على دينهم وتحت سلطانهم، فالغساسنة بالشام -على سبيل المثال- كانوا يُعدُّون عند كثيرٍ من المؤرخين من الروم، وعندما خاض الصحابة -رضي الله عنهم- معركة مؤتة في العام الثامن الهجري، إنما كان ذلك حسب الروايات التاريخية مع روم الشام الغساسنة النصارى، وهم من العرب الذين حكموا الشام باسم البيزنطيين!
وكانت الأناضول (تركيا الحديثة) سكناً وموطناً للروم السلاجقة، وهم جنس من الأتراك، كما أن إحدى عاصمتي الروم قديماً كانت القسطنطينية في تركيا (إسطنبول حاليًّا)، حيث كانت العاصمة الشرقية للروم، التي تضم الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية للروم (أياصوفيا). وهناك الرومان في روما، ولم يكن قد حصل احتكاك عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بهم آنذاك. ولهذا فتنوع جغرافية الروم وأجناسهم المتعددة مما يُرجِّح -والله أعلم- ارتباط مصطلح الروم بالديانة النصرانية، وليس بجنس بشري معين مُحدَّد()، مع العلم أن هذه الخصال عن الروم ليست قدراً شرعياً أو كونياً.
– طبائع أم قِيَم؟
وثَمة تساؤلاً آخر يستحق الدراسة: هل الخصال الواردة في أثر ابن العاص -رضي الله عنه- هي طبائع أم قِيَم نافعة للآخرين؟ وهل هذه الطبائع تتلازم مع جنس الروم أياً كانوا؟ مما يعني اتصافهم بها في كل حين وعلى أي حال، أم هي قيم ترتبط بالدين النصراني يؤمنون بها ويتمسكون بتطبيقها ما داموا على دينهم، وقد تظهر أحيانًا، وقد تغيب أحياناً أخرى؟ وهل هذه الخصال تُعدُّ قِيَماً مُثلى لهم خاصة بهم دون سواهم؟
لا شك أن للأقوام والشعوب طبائع خاصة بها، كما بين ذلك علماء الاجتماع منذ القدم، بالإضافة إلى أن هناك قيماً تنتشر في المجتمعات لأسباب دينية، أو موروثات قومية، أو اجتماعية، أو اقتصادية وغيرها. و-كما سبق- أن الروم لم يكونوا في ذلك الوقت جنساً واحداً، بل أقوامٌ مختلفين في أجناسهم وطبائعهم، ورما تجمعهم الديانة النصرانية.
– عدلٌ مع الخصوم وتوضيح:
تُعدُّ هذه اللفتة من الصحابي عمرو بن العاص من القول بالعدل والإنصاف، على الرغم من عداوة الروم للمسلمين وخصومتهم آنذاك! والتزاماً بمنهجية العدل فإن هذه الطبائع أو الخصال ما تزال من مصادر القوة السياسية والعسكرية لكل من يتصف بها.
فلو تأملنا تلك الخصال الثلاث الواردة في الأثر (الحلم عند الفتنة، وسرعة الإفاقة بعد المصيبة، والكرة بعد الفرة) لوجدنا أنها لا تعني المدح والثناء، أو الشهادة بالتفوق وقوة الحضارة، بقدر ما أنها توصيف لأبرز عناصر الطبائع الذاتية المرتبطة بالقوة العسكرية والسياسية للروم في السابق، وللغرب النصراني في اللاحق. ولوجدنا كذلك أن هذه الخصال الخمس بمجموعها لم تكن قِيَماً وأخلاقاً حضارية إشعاعية للتصدير، أو قِيماً متعدية النفع للآخرين.
وفي العصر الحاضر تحديداً فإن الوضع الداخلي للغرب وفيما بينهم يُعدُّ لصالحهم؛ فالفتن والمحن في أحيانٍ كثيرة تزيدهم تماسكاً ووحدة، وتدفعهم إلى الأمام وليس إلى الخلف، وذلك بسبب الحِلْم فيما بينهم. وهم أسرع إفاقة بعد الحروب التي مرت بهم، ومن آخرها الحربين العالميتين الأوروبيتين الأولى والثانية، حيث تجاوزوها سياسياً واقتصادياً، ولم تكن مشجباً سلبياً وعائقاً عن عمليات التنمية لديهم كما هو حال غيرهم. وهم كذلك أطول الناس نَفَساً في حرب أعدائهم حيث سرعة الكرَّة بعد الفرار.
وأما الخصلتان الرابعة والخامسة (خير الناس لمساكينهم وضعفائهم، وأمنعهم من ظلم الملوك)، فهي مما يُعدُّ من القيم عند عموم الغرب في عصورهم المتأخرة، بالرغم مما أصابها من الانحراف أو الضعف نتيجة تخليهم عن صحيح دينهم! ثم نبذهم لدينهم مؤخراً، ومع هذا فقد أصبحت هذه القيم في أحيانٍ معيَّنة من القيم الموروثة المتبقية والدافعة، وربما الضابطة لبعض المنظمات الخيرية للشعوب الغربية.
وتكشف أعمال بعض المنظمات الحقوقية والإغاثية عن وجود هذه القيم. ويتضح هذا في الحجم الكبير لأدوار منظمات القطاع التطوعي وغير الربحي الغربية المتنوعة والمتعددة التي أنشأها الغرب، لكنها لمصالحهم وفيما بينهم. وكان النجاح لمنظماتهم حينما تم وضعها إدارياً في الموقع الرئيس من التنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلدانهم، وهو ما يتطلب الاستفادة من تجربتهم الإدارية خاصةً في الوسائل والبرامج التي تميزت بها كثير من تلك المنظمات.
ويمكن للمسلمين أن يُوظِّفوا قيم الإسلام وتشريعاته المتعدية النفع والرحمة للعالميين أجمعين؛ لتخدم أكثر في قطاعهم التطوعي، ولكل البشرية بما يفوق غيرهم -كما فعلوا أزمنة حضارتهم التي أنارت العالم- مع العمل على استلهام تجارب الآخرين.
كما أن الديمقراطية السياسية المعاصرة لديهم وما فيها من عدل فيما بينهم مما يؤكد أثر الخصلة الخامسة عندهم (أمنعهم من ظلم الملوك)؛ حيث محاسبة الشعوب الغربية لحكوماتهم، وهذا من مصادر قوتهم وتفوقهم، بل وهيمنتهم العالمية، وقد أشار إلى شيءٍ من هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: «إنَّ الله يقيم الدَّولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدَّولة الظَّالمة، وإن كانت مسلمة»().
ويمكن أن نقرأ في إشارات هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه التنبيه على هذه الخصال وأهميتها في سلامة المُلك وقوته ودوامه، للاستفادة منها من جهة، مع التنبه للخلل الحاصل من الغرب العلماني في قَصر هذه القيم على أقوامهم من جهة، ووجود العوائق والخلل في تطبيقات الديمقراطية في العالم الآخر من جهة أخرى.
– قراءة تاريخية مفصلة في هذه الخصال:
تتأكد أهمية التوضيح عن هذه الخصال الخمس وفعاليتها، والتحاكم حولها وحوكمة القطاع الخيري الغربي المعاصر إليها عند أي قراءة عنه وله. وهنا عرض تفصيلي لهذه الخصال (الصفات)، ثم للقيم الأخلاقية وحوكمتها تاريخياً، باعتبار الروم هم الغرب المعاصر تقريباً، ومن المؤكد أن هناك فروقات في المفاهيم والمعاني بين الطبائع (الثلاث الخصال الأولى) وبين بقية الخصال التي تُعدُّ من القِيَم الخاصة بهم.
فعن (الخصلة الأولى) «أحلم الناس عند فتنة»، نجد أن الغربيين يتعقَّلون إلى حدٍّ معين في التعاطي مع احتواء الفتن والأزمات الداخلية داخل مجتمعاتهم الغربية. لكن هذا الحلم لم يكن قاعدة أساسية تمنع وقوع الفتن الكبرى فيما بينهم. كما أننا لا نجد أن التاريخ الغربي كله يتسم بهذه الخصلة، فالباحث يجد أن معظم تاريخ أوروبا تسوده الفتن والاقتتال الداخلي. ومن ذلك حروب قياصرة أوروبا والحروب الدينية فيما بينهم، وحروب المئة عام الأوروبية البينية (1337-1453م)، وحروب الثلاثين عاماً فيما بينهم (1618-1640م)، بل وفي العصر الحاضر تُعدُّ الحروب الأوروبية البينية مما يتنافى مع الحلم. ومن أبرزها الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) والثانية (1939–1945م) والتي أهلكت ما يزيد عن 65 مليون إنسان منهم، مما يمكن وصفها بالحماقة وعدم الحلم! فهل ينتفي مع هذه الحروب الكثيرة والطويلة بقاء الحلم والأناة والتعقل؟ فضلاً عن حروبهم مع الآخرين مثل حملاتهم الصليبية الوحشية ضد العالم الإسلامي على مدى قرنين من الزمان! وهل أنموذج التعقل والحلم كان منتفياً أثناء حروب توحيد الولايات المتحدة الأمريكية؟ ثم ما مدى حضور الحِلْم الأمريكي عند حدث الحادي عشر من سبتمبر 2001م حينما استفزهم الحدث؟ -بالرغم من تناقض الروايات حول مصدر الحدث وصانعه- فدمَّروا مثلاً العراق وأفغانستان بكل صور التدمير، بما لا يخطر على البشرية تصوره؟ فهل هذه الأحداث والحروب الأوروبية والأمريكية الطويلة والقذرة تعني أنها حالات استثنائية في تاريخ (الحِلْم) الغربي، بالرغم من ديمومتها عشرات ومئات السنين؟ أم أن ما ورد عن عمرو بن العاص ، كانت خصالاً بعمومها مرتبطةً بزمنه وبالديانة النصرانية لدى روم الشام ومصر من العرب النصارى؟! وهذا ما يحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة.
وكل هذا مما يُرجِّح أو يتوافق مع القول: إنَّ الروم عند ورودها في الأحاديث والتاريخ والآثار يُقصد بها أهل الدين النصراني، وليس جنس الروم. وهذا بالتالي يؤكد أن غياب الدين -وإحلال العلمانية أو الإلحاد بمكانه- يعني انتفاء هذه الصفات أو ضعفها مع بقاء آثارها.
وعن (الخصلة الثانية) «أسرعهم إفاقة بعد مصيبة»، فالروم سابقاً والغرب لا حقاً لديهم بحق سمة المهارات والقدرات في إدارة أزماتهم الذاتية! وذلك للنهوض من كبوات الحروب الداخلية ومصائبها وتجاوز كوارثها، وإن كانوا طرفاً فاعلاً أساسياً في إثارة الحروب الخارجية التي تُوحِّد شعوبهم الغربية وتُبعد الحروب الداخلية عنهم، كما حدث منهم في تاريخ الاحتلال البغيض لدول العالم، وما صار لهم من استقرار بعد الحرب الأوروبية العالمية الثانية، يُمكن أن يُعدَّ حالة استثنائية في تاريخهم الطويل، لتأتي حروب البوسنة وكوسوفا والحرب الأوكرانية الغربية الروسية عام 2022م فتُفسد هذا الاستقرار والاستثناء! علماً أن خصلة الإفاقة بعد المصيبة خاصة بهم، وليست نافعة للآخرين؛ بل إن إفاقتهم تعني هجومهم على غيرهم واحتلالهم!
وحول (الخصلة الثالثة) «أوشكهم كرة بعد فرة»، فهذا ما يُصَدِّقُه حالهم في تجاوز الهزيمة وآثارها، والعمل على استعادة القوة والانتصار. والواقع المعاصر يؤكد أن هذه الصفة تتلازم مع شخصيتهم فلا يسأمون من الغزو والاحتلال، أو من الحرب مع الآخرين ولو بعد وقوع الهزيمة بهم! فالعمل المؤسسي في الغرب مع النقد الذاتي والمراجعات والتصحيح لأخطائهم عامل مساعد على تحقيق هذه الخصلة، لا سيما في عصور هيمنتهم.
والظاهر من أحوال الغرب وتاريخهم أن هذه الطبائع أو الخصال الثلاث كانت -ولا زالت- نافعة لهم، مع أنها ضارة بخصومهم وأعدائهم من المسلمين وغيرهم، وربما ارتبط جانبها السيء بأكثر من الحَسَن؛ حيث عدوانيتهم العسكرية على الآخرين أكثر من حالات السلم والسلام مع غيرهم! فهذه الخصال الثلاث خصال حميدة للروم أنفسهم، لكنها تُعدُّ بحق الآخرين من خصومهم مخاطر عسكرية، وبالتالي فهي ليست أخلاقاً وقيماً نافعة للآخرين.
وعن (الخصلة الرابعة) وهي من القيم الأخلاقية المُثلى «وأرحمهم لمسكين ويتيم وضعيف»، وفي رواية أخرى لمسلم تؤكد بمنطوقها أنها صفة لهم وخاصة بهم مع أنفسهم (وخَيْرُ النَّاسِ لِمَساكِينِهِمْ وضُعَفائِهِمْ)(). وهو ما نراه اليوم من نجاح مؤسساتي كبير داخل دول الغرب ذاتها وخارجها كذلك، مع تحفظ على كثير من الممارسات حول إنسانية الغرب الخارجية، لا سيما عند عمل الغرب خارج نطاقه الجغرافي وكيله بمكيالين في الإنسانية! كما هو احتلال الغرب لمعظم بلدان العالم وسرقة ثرواتهم وانتهاك حقوقهم الإنسانية أفراداً ومجموعات ودول، مثل ما هو مع معظم دول أفريقيا في صناعة المساكين والضعفاء والفقر والمجاعات، ويؤكد هذا خروج رحلات الموت البشرية والهجرات الجماعية منها، بحثاً عن لقمة العيش والحياة؛ حيث لم تستفد من العون الإغاثي الغربي.
إضافةً إلى التحفظ حول أهداف العديد من مؤسسات العطاء الغربي، كالتنصير، وأعمال التجسس والدراسات الاستعمارية عن الأمم والمجتمعات، حيث تُصنف بعضها لدى كثير من الباحثين بأنها بوابة استعمارية ذات أهداف غير أخلاقية، كما أن بعض الممارسات الخاطئة من بعض مؤسسات العطاء خارج أوطانها تعمل بما يُسمَّى (الجنس مقابل عَطَاء الغذاء)، كما تشير إلى هذا بعض تقارير الأمم المتحدة، وكما هو تعبير الباحث البريطاني غراهام هانكوك في كتابه (سادة الفقر).
إضافةً إلى توزيع الأغذية والأدوية الفاسدة أو المنتهية صلاحيتها للمحتاجين في بعض دول العالم الفقيرة، كما في الكتاب السابق ذكره، وكما في كتاب الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر (قيمنا المعرضة للخطر) وغيرهما من الكتب.
ومن المؤكد أن هذه التجاوزات والممارسات الخاطئة الكبيرة جاءت بسبب تحولات الغرب عن قِيَمِه الدينية السابقة؛ حيث لا أخلاق أو قيم مُثلى بلا دين -كما هو معلوم-، لا سيما ما حدث بعد الثورات الصناعية الغربية وثورات التقنية، وما صاحبها من تحولات الغرب للحداثة وما بعدها بديلاً عن دينهم وما فيه من قِيَم أخلاقية سماوية()، وما ترتب على هذا التحول القديم والجديد من ضَعف القيم الأخلاقية وانعدام الثوابت، فالاستحسان للأخلاق ليست ثوابت، وليست مرجعية قوية يُعتمد عليها! ولهذا ترد تساؤلات كبيرة عن مدى استمرار التزام عموم الغرب بهذه الخصلة في عصورهم المتأخرة! لا سيما مع علمانية كثير من المنظمات الغربية، وتنامي الإلحاد واللاأدرية لدى معظم شعوب الغرب ودوله!
وتأتي (الخصلة الخامسة) وهي من الخصال الأخلاقية الجميلة في حياتهم «أمنعهم من ظلم الملوك» والتي تُعدُّ صِمامَ أمان بين شعوبهم وحكوماتهم. وبحضور هذه الخصلة الأساسية للحياة لأي دولة تتحقق في الغالب الخصال الأربع الأخرى.
وهذا ما يؤكده واقع الغرب المعاصر بديمقراطيته. فرؤساؤهم من انتخابهم وبإرادتهم جاؤوا، والحاكم موظف تنفيذي لهم، بالرغم مما ساد معظم التاريخ الأوروبي من حكم اقطاعي واستبداد سياسي وديني ظَلَّ قروناً طويلة.
فهل يُعدُّ هذا الاستبداد التاريخي في أوروبا ما قبل الثورة الصناعية من الاستثناء برغم طول مدته لقرون متعاقبة؟ ثم إن مما يؤكد أن هذه الصفة داخلية بينهم أنهم بسياساتهم الاستراتيجية يُعدُّون من أكبر الداعمين للحروب الخارجية، ومن أقوى المناصرين للاستبداد السياسي في معظم دول العالم الثالث والنامي، وفيها من الظلم والعدوان على العدالة وعلى حقوق الشعوب الشيء الكثير!
وقد عَمِلت شعوب الغرب ودُوَله على ما يكفل لهم هذا الحق داخل أوطانهم (أمنعهم من ظلم الملوك)، حينما أنشؤوا مؤسسات معنية بالعدالة والديمقراطية في الجانب السياسي، إضافةً إلى حقوق الإنسان الغربي والمنظمات الأممية المُسخَّرة لخدمة استقرار الغرب وسلامته وأمنه، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ذلك تأسيس منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان. وكل هذا مما يراه الغرب موانع من ظلم الحكومات الغربية لشعوبها! بالرغم من عدم العدالة مع الدول الأخرى وحقوقها الإنسانية، لا سيما في ممارسة حق القبول والرفض (النقض) المسمى (الفيتو)؛ حيث خَمْس دول كبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن لا تمثل سوى ربع سكان العالم أو أقل يتحكَّمون ببقيته؛ لدرجة اغتيال العدالة الدولية في كثير من القضايا! ولهذا يُعدُّ حق (النقض) الفيتو من العار الذي تراه عموم البشرية وتعيش آثاره!
– وقفةٌ للتأمل:
لا شك أن الغرب بالتزامه ببقايا طِباع الروم النصرانية الثلاث الأولى، ثم بأخذه بالقيم المُكمِّلة (الرابعة والخامسة) عاش فترةً من الاستقرار والسلام الداخلي وساد وهيمن، وتَقَدَّم مادياً بصورة مذهلة، بغض النظر عن جوانب العدوان لدى الغرب مع الشعوب والأمم الأخرى، والممارسات الخاطئة بحقوق الآخرين من دول وشعوب؛ حيث تكريس الكراهية والتعصب وعدم التسامح، كما حَدَثَ ويحدث -على سبيل المثال- مع فلسطين، والبوسنة والهرسك، ومع كوسوفا، ومع أفغانستان والعراق وسوريا! وغيرها كثير.
وعن الظلم والعدوانية بتحقيق المصالح الخاصة للدول الكُبرى على حساب إضعاف وتخلف غيرها فإن القيم الغربية السياسية تكشف حقيقة غيرها من القيم. ومن ذلك المقولة المنسوبة لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، وهي مما يكشف أكثر عن أبرز مُوجِّهات القيم الغربية السياسية: «على الولايات المتحدة ألا تقوم بحل أي من المشكلات العالمية، بل عليها أن تُمسك بخيوطها، وأن تُوجِّهها بما يخدم الأمن القومي الأمريكي»().
وفي كتاب (ما وراء السلام) قال ريتشارد نيكسون: «إن معظم أفضل الرؤساء الأمريكان هم الرؤساء الذين خاضوا حرباً، وأعظم الطفرات الأمريكية في الإنتاج والتقدم العلمي قد حدث أثناء الحروب»(). فهل الأمن القومي الأمريكي والمصالح الخاصة والقوة تكون بإثارة الحروب وبقاء الأزمات العالمية وتعطيل المصالح العامة للدول الأخرى غير الغربية؟!
ولهذا يرد التساؤل المنطقي: هل روم اليوم بدون قيم الدين النصراني، هم روم الأمس بدينهم المُحرَّف الذين ربما عناهم قول الصحابي عمرو بن العاص ؟ لا سيما أن التساؤل يتأكد عند استحضار صراعاتهم وحروبهم البينية -وتعاملهم مع غيرهم كما سبق-، علماً أن حقيقة القيم والأخلاق المُثلى الصحيحة هي التي لا تكون مع الأنداد والأقوياء فحسب، بقدر ما هي بالعدالة أولاً مع الضعيف والمسكين والفقير، وبالتسامح مع الآخرين من دول وشعوب، مع الحرص على الاستقرار والسلم والسلام العالمي، وليس الغربي فحسب.
فاحترام حقوق الإنسان بعدم الاعتداء على ثروات الأمم والشعوب، هو ما يتوافق مع الخصلة الخامسة، لو كان منع الظلم يتعدى حدود الغرب الجغرافية! وخلاف ذلك يُعدُّ من أكبر الظلم والانتهاك لحقوق الإنسان، وللأمم والشعوب والدول()!
ومرةً أخرى هل تعني عموم هذه الخصال الخمس النافعة لهم أنها كانت سائدة فقط في ذلك الزمن وحده؟ لا سيما أن قول عمرو بن العاص يؤكد أن صفاتهم الرابعة والخامسة، وما فيها من القِيَم الحسنة تتعلق بهم داخل حدودهم ولبني جنسهم، وفيما بينهم دون من سواهم!
ثم ألم يطرأ لدى الغرب تحول في ميادين القيم والأخلاق العامة بعد عصور الحداثة والتنوير وبعد نبذ الدين وقِيَمِه؟ لا سيما قِيَم القطاع غير الربحي الخارجي، كما هي حال مؤسسة غيتس غير الربحية()، وكذلك جورج سوروس وما يُثار على كثير من برامجهما من شكوك، مما يتنافى مع القيم والأخلاق الإنسانية! أم أن كل هذه التساؤلات تُثبت أن هذه الخصال الخمس كانت في عصورٍ مضت، وبقيت بعض آثارها ورواسبها؟
ولهذه الاعتبارات المتعددة وما يُماثلها فإن هذه القيم المثلى الرابعة والخامسة -وليست خصال الطبائع- من المُرجَّح أنها ترتبط أخلاقياتها ومثاليتها بالديانة النصرانية وقيمها آنذاك أينما كانت، خاصةً في مصر والشام، حيث سيادة أو احتلال الروم النصراني لهما آنذاك، وإن كان الغرب المعاصر وَرِثَ هذه الخصال من الديانة النصرانية فكيف يكون الجمع بين كلام عمرو بن العاص والواقع العملي التاريخي المختلف كثيراً عن هذه الخصال أو بعضها؟
وهذا ما يتطلب شيئاً من المناقشة الهادئة المنصفة والتساؤلات حول من المقصود بالروم هل هو الجنس أم الدين؟ وعن بقاء عموم هذه الخصال، وهل تتلازم معهم إلى قيام الساعة؟ مع أن بعض هذه الخصال الحميدة من آثار دينهم كانت -وما زالت- داخل حدودهم وفيما بينهم فقط؛ حيث إن لهم خارج حدودهم ممارسات مختلفة تماماً؛ لدرجة التصادم مع كل القيم والأخلاق التي وردت في الأديان السماوية! كما سبق توضيحه.
وخلاصة القول في هذه (القراءة التاريخية) عن حقيقة هذه الخصال الخمس أنها صفات وطبائع ذاتية، وقيم أخلاقية مُنحصرةً بهم داخل دولهم. كما أنها تخصهم دون نفع مُتعدٍ لغيرهم من شعوب الأرض! حتى أن وسائل المدنية الغربية والتقدم المادي الصناعي والتقني الغربي المعاصر لم تنتشر إلا من خلال التسويق التجاري الاقتصادي البحت ببيع المنتجات التقنية والصناعية للآخرين! وقِيَم الاقتصاد ليست ذات أصل ديني وأخلاقي نافع للأخرين بقدر ما هي ذات أصول مادية نفعية مصلحية، ثم أن هذه الصناعات لا تعدو أن تكون تقنيات وماديات اقتصادية وتجارية، وليست عطاءً ورحمة وإسعاداً للبشرية.
وبهذا تتأكد قيمة وأهمية المنظومة الحضارية الكاملة (للقيم والأخلاق) معنوياً ومادياً وأهميتها للبشرية، حينما تكون صادرة من حضارةً إشعاعية تُقَدِّمُ النفع والخير والعدل لعموم البشرية، بما ينافس قول الصحابي عمرو بن العاص : (وخير الناس لمساكينهم وضعفائهم). ومن المهم قوله إن البشرية بحاجة إلى حضارة تُهدِي الحرية الحقيقية للإنسان، كما أكَّد هذا المفكر النمساوي محمد أسد ومن بعده المفكر الألماني مراد هوفمان، وما في حضارية الإسلام من تحقيق للعدالة والتسامح والرحمة مع البشرية جمعاء بما يفوق هذه الخصلة الموصوف بها الروم (وأمنعهم من ظلم الملوك).
كما تتأكد الأهمية لحضارة تُلبِّي حقوق الإنسانية وللعالَمِين جميعاً بمحركاتها الدينية وضوابطها من الثوابت الأخلاقية، وهو ما اتصفت به الحضارة الإسلامية عبر عصور إشعاعاتها على الشرق والغرب، كما هو -كمثال- عنوان كتاب الباحثة الألمانية زيغريد هونكه (شمس الله تشرق على الغرب – فضل العرب على أوروبا) حسب الترجمة الصحيحة للعنوان، والله من وراء القصد.
د. محمد بن عبدالله السلومي
باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
[email protected]
لا توجد تعليقات