29 مارس 2023م
كَتَبَ الشيخ المفكر صالح بن عبدالرحمن الحصين -رحمه الله- وحَاضَر عن هدايا الحضارة الغربية المعاصرة وأزماتها، وكان تحديده لأبرز أزماتها بأنها: الأزمة الروحية والإيمان، والأزمة السياسية الأخلاقية، والأزمة الاقتصادية. والجوانب الثلاثة تُعدُّ من جذور أي حضارة وركائزها، والغرب المعاصر بمدنيته أو حضاريته يعيش هذه الأزمات باختلافٍ يسير بين دوله ومجتمعاته، وحينما كَتَبَ الحُصين عن هذه الأزمات أورد أن (الأزمة الاقتصادية) سواءً اقتصاد النظام الشيوعي أم الرأسمالي كلاهما تَغِيب فيهما العدالة الاجتماعية، فمناخ الرأسمالية لا تتحقق فيه فرص المساواة كما هو واقعه! ومما قال بالتفصيل عن النظامين: «قد تكون هذه الأزمة [الاقتصادية] أساسَ هذه الأزمات، والحقيقة أننا لا ندري أين السبب وأين النتيجة، فكل أزمة منها سبب لآخر ونتيجة له في نفس الوقت. من عهد آدم سميث، وطوال مائتي سنة الماضية عجزت الحضارة الغربية، وبالتالي ما نسميه الآن بالحضارة أو الثقافة العالمية المعاصرة عن حل… جاءت الشيوعية فطبقت الاتجاه الجماعي بكل قوة خلال مدة طويلة تقريبًا سبعين سنة، ثم فوجئ العالم بانهيارها، ولم يكن انهيارها بسبب التوازن في التسلح، أو أن القوة العسكرية اختل توازنها، بل لأنه انكشف أنه اتجاه هش لا يستقيم مع الحياة» [أزمة الحضارة المعاصرة].
ويُوضِّح الحصين أن الاتجاه الرأسمالي سبب للصراعات وللحروب المدمرة في أحيانٍ كثيرة، وكذلك صانع لفقر الأغنياء في أحيانٍ مُعيَّنة، حيث يقول: «ونفس الشيء بالنسبة للاتجاه الرأسمالي؛ لأنه عبارة عن أزمة دولية، وأحيانًا تكون أزمة مثل أزمة عام 1929م التي أتت بالحرب العالمية الثانية، والآن انظروا إلى صور الأغنياء الكبار بها يصطفون في طوابير لأجل الحصول على خبز الصدقة! فالأزمة الاقتصادية أزمة عالمية» [أزمة الحضارة المعاصرة].
وكرَّر الحصين التوصيف لعموم الاقتصاد الدولي وآثاره على المجتمعات والدول بتجربتيه الشيوعية الجماعية والرأسمالية الفردية، ومما قال: «العالم الغربي لأكثر من مائتي سنة كان يتأرجح بين الجنوح إلى الاتجاه الجماعي أو إلى الاتجاه الفردي، وجرَّب العالم الاتجاه الجماعي مدة سبعين سنة انتهت بانهيار النظام، كما لو كان بيتا من ورق، ولم يكن للنظام الرأسمالي الذي يأخذ بالاتجاه الفردي حظاً أكثر سعادة، إذ ما فتئ الاقتصاد الجانح للاتجاه الفردي يدور في حلقات متكررة من الأزمات المالية، بالإضافة إلى أنه لم يوفر السعادة للبشر، حيث أن المال يعمل في الغالب في مجالات يكون فيها المال دولة بين الاغنياء، ولا يمكن أن توصف بأنها (قيام للناس)، ولا تخفى آثار ذلك على حياة البشر. أما الإسلام فقد هُيِّئ له في الواقع فرصة للتوفيق بين الاتجاه الفردي والاتجاه الجماعي» [هل من الممكن أن نتحرر من هذا الرق الثقافي؟].
والحصين حينما يعتبر الاقتصاد العالمي المعاصر في أزمة، فهو لا يرى أن هذه الأزمة أو الأزمات الاقتصادية الحالية والمستقبلية طارئة يمكن حلها؛ لأن الأزمة تكمن في تركيبة الاقتصاد الربوي العالمي وبنيته الأساسية، والتي يرى عقلاء الاقتصاد في العالم أنها خلل جذري بنيوي، ولهذا فتخفيف أو تخفيض نسبة الفائدة الربوية لا تعني الحل الجذري، بل هي من المُسكنات المؤقتة التي يَعْمَدُون لها من حين لآخر عند كل أزمة.
خبير الاقتصاد موريس آليه وتشخيصه:
كتب الحُصين في ورقته العلمية عن (الرق الثقافي) وشخَّص حقيقة الاقتصاد الرأسمالي الغربي وقيادته للاقتصاد العالمي، وأن أزماته دائمة ومتكررة، واعتبره من أبرز صُنَّاع أزمات الاقتصاد العالمي واسترقاقه بأهرامات الديون، وعن هذا قال: «لقد كشف الاقتصاد الكبير المعاصر عن نتائج مدمرة للنظام المصرفي الربوي لم تكن معروفة من قبل، وبما أن هذا النظام من الآليات الرئيسة للاقتصاد الغربي، فقد استحوذ دائماً على نقد [انتقاد] الاقتصاديين الغربيِّ، ولعل أوضح ما يعبر عن ذلك ما تضمنه مقالان لعالم الاقتصاد الفرنسي الأستاذ (موريس آلية) نشرها في صحيفة لوموند في يونيو عام 1989م، من أن النظام البنكي الغربي سبَّب أضراراً فادحة للاقتصاد العالمي، تتلخص في وجود مرض متجذر في الاقتصاد العالمي يُهدِّده بالانهيار أو مواجهة أزمات حادة، إذ أصبح هذا الاقتصاد عبارة عن أهرامات من الديون يرتكز بعضها على بعض بتوازن هش»[هل من الممكن أن نتحرر من هذا الرق الثقافي؟].
وعن طبيعة استعمالات المال في اقتصاد الحضارة المعاصرة أضاف بقوله: «وفي استعمال المال في غير وظيفته الطبيعية بتيسير النظام البنكي الغربي عمليات الـSpeculation، وأصبح العالم أشبه بمائدة قمار واسعة، وأصبح (الإسبكيوليشن) يستأثر كما يُقرر موريس آلية بـ97% من تدفق النقود بين بلدان العالم، ويبقى للتجارة الحقيقية 3% فقط، وذلك كله كان سبباً لما يعانيه العالم من ضنك وبطالة وانخفاض في مستوى العدالة الاجتماعية» [هل من الممكن أن نتحرر من هذا الرق الثقافي؟].
ويضيف الحصين عن موريس آليه وهو الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، أن العالَم يُعاني من هذا الاقتصاد وآثاره مما يستوجب المبادرة في الإصلاح الاقتصادي، وذلك بقوله: «وإذا صح ما استنتجه موريس آليه من أن استعمال المال في غير وظيفته الطبيعية هو سبب ما يعانيه العالم من عَنَت وضِيْق في العيش، وغياب للعدالة الاجتماعية، وتعقد مشاكل التشغيل، فإن ذلك يهدينا في مجال الإصلاح الاقتصادي إلى وجوب أن نعيد النظر في مدى الحكمة من تسارع مسيرتنا في اتجاه الاقتصاد الرأسمالي» [خاطرات حول المصرفية الإسلامية، ص8].
ويؤكد الحصين عن حالةٍ واحدة من حالات الاسترقاق العالمي ومخاطرها على دول العالم بقوله: «في خلال 80 عامًا وقَّعَت الولاياتُ المتحدة عقوباتٍ اقتصاديةً على البلدان الأخرى 120 مرة، منها 104 بعد انتهاءِ الحرب الباردة، وفي سنة 1998م وحْدَها كانت الولاياتُ المتحدة توقِّع العقوباتِ الاقتصاديةَ على 75 دولة، تشمل 52% من سكّان العالم… مرَّ الاستعمارُ العسكريّ، ولكن بَقِي الاستعمارُ الاقتصاديُّ والاستعمارُ الثقافيّ!» [التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب، ص215].
شيءٌ من التوصيف والحل:
الحصين لا يترك السامع له، أو القارئ لما كَتَبَ أمام أزمة دون تشخيص ومقترح لحلها؛ حيث يرى أن نظام الاقتصاد الإسلامي قائم على التوازن بين الاتجاهين الفردي والجماعي: «التوفيق بين الاتجاه الفردي والاتجاه الجماعي بأخذ كل إيجابيات هذا، وتفادي سلبيات ذاك» [أزمة الحضارة المعاصرة]، وله كتابٌ معني بهذا العنوان (خاطرات حول المصرفية الإسلامية)، وهو بطروحاته الاقتصادية هذه يُعدُّ العالم المتمكن فقهياً، المؤهل فكرياً وثقافياً، وهو الخبير القانوني كذلك.
والحصين مع هذا الواقع للاقتصاد العالمي يُكرِّر النصح برؤيته حول مخاطر اقتصاد الحضارة المعاصرة؛ حيث يُعدُّ الناصح لوطنه ولولاة أمره ولاقتصاد بلاده المحلي بأن لا تستحوذ عليه سياسات الاقتصاد الأجنبي الخطرة، وذلك بأن يكون الحذر والانتباه إلى هذه المخاطر المتفاقمة عالمياً عاماً بعد آخر في ميادين الصراع الاقتصادي قائلاً: «ويعزز هذا الواجب [الإصلاح الاقتصادي] واقع نظامنا المصرفي الربوي، وحَقيقةَ أنه يُعبِّد الطريق لتتجه مدخرات مجتمعاتنا إلى الأسواق الدولية التي ليست في حاجة إليها، والتي تتسم بالمنافسة الحادة مما يؤثر على الجدوى الاقتصادية لاستثمار المال الوطني، وفي ظل العولمة الاقتصادية إذا لم تَثْبُت مؤسساتنا المصرفية في معركة البقاء أمام عمالقة المصارف العابرة للقارات، فالمتوقع أن يزداد الأمر سوءاً» [خاطرات حول المصرفية الإسلامية، ص8].
والحصين لم يكتفِ بهذا التشخيص والنقد والنصح عن قضية كبيرة تشغل الرأي العام العالمي، بل وتؤرقه بأزمات اقتصادية متتابعة قائمة وقادمة، فهو في آخر ورقته العلمية البحثية بعنوان (هل من الممكن أن نتحرر من هذا الرق الثقافي؟) يدعو إلى ما هو أهم في النظر والتأمل حول الحضارة المعاصرة ذاتها برقِّها الاقتصادي وغيره، وذلك حينما كَتَبَ فقال: «هل يمكن أن يبقى لدى القارئ سبب للغلو في الثقة بالثقافة الغربية (الثقافة المعاصرة) وتقديرها بأكثر مما تستحق؟ على الأقل بالنسبة للتصورات المذكورة آنفا، فإذا كان الجواب بـ “لا” فهذا يعني أول خطوة في التحرر من الرق الذي تفرضه الثقافة الغربية على عقول المسلمين وقلوبهم.
إن الغلو وتجاوز الحد في الثقة في نظام معين أو تصور معين، يُرتِّب ولا شك ضعفاً في الثقة في النظام المقابل. مغزى ما سبق أنه بدون ثقة كاملة بالإسلام لا يمكن الوعي بإمكاناته، وإذا لم يمكن الوعي بإمكاناته، فكيف يمكن الإفادة منها والانتفاع بها، وإذا لم يمكن ذلك، فكيف يمكن التحرر من الرق الثقافي في التصورات والتطبيقات؟» [هل من الممكن أن نتحرر من هذا الرق الثقافي؟].
تعليق حول تناقضات الاقتصاد المعاصر:
وأنا أكتب عن رؤية الحصين حول الاقتصاد المعاصر لفت انتباهي ما يُعزِّز رؤية موريس آليه ويُوثق رؤية الحصين كذلك حول استرقاق دول العالم من خلال الاقتصاد والديون، حيث الأرقام المهولة من ديون الدول الرأسمالية وحكوماتها بما فيها دول الثراء والمال، فضلاً عن ديون الأفراد! ومن ذلك ما ورد في تقرير الموقع الأمريكي (ساعات الديون العالمية World Debt Clocks)، وفيه ورد: «دين الولايات المتحدة الأمريكية: (30 تريليون) دولار، دين الصين: (10 تريليون)، دين ألمانيا: (3 تريليون)، دين بريطانيا: (3 تريليون)، دين فرنسا: (3.5 تريليون)، دين روسيا: (288 مليار) دولار» [تقرير ساعات الديون العالمية World Debt Clocks] والديون تُعدُّ رقَّاً للمدينين!
والحقيقة أن من غرائب هذا الاقتصاد العالمي وعدم العدالة فيه، إضافةً إلى تناقضاته الضارة بكوكب الأرض وقاراته وسكانه، أن الناتج السنوي العالمي حسب إحصائيات عام 2022م حوالي مائة (100) ترليون دولار، بينما ديون العالم تتجاوز ثلاثمائة وخمسون (350) ترليون دولار، فديونه تفوق إنتاجه بنسبة 350% [اندبندنت عربية ووكالات، بتاريخ 15 سبتمبر 2022م و28 ديسمبر 2022م]، فمن المسؤول عن هذه الفجوات الكبيرة؟! ومن هو صاحب الدَّيْن؟! ويضاف إلى هذا أن أزمات التضخم والفقر تتلازم مع هذا الاقتصاد العالمي، ولا يمكن التغلب عليها كما هي أقوال خبراء الاقتصاد، فالفقر حسب بعض الإحصائيات يقتل يومياً 19.700 إنسان، بمعنى خمسة عشر شخصاً كل دقيقة تقريباً، في الوقت الذي يمتلك 26 ملياردير أعلى مما تمتلكه نصف البشرية حوالي (3.8) مليار إنسان من الفقراء وعامة الناس، وهنا ما يهز ثقة العقلاء في العالم؛ حيث أنه اقتصاد قائم على الظلم وعدم العدلة! والتناقضات كثيرة لا تحصى! وقد أجاد مؤلف كتاب (اقتصاد يُغدق فقراً) حينما أوضح الخبير الاقتصادي هورست أفهيلد رئيس جمعية العلماء الألمان بمجمل كتابه أن الحاضنة الرئيسية للفقر هي رأسمالية الاقتصاد التي تصنع الفجوات بين البشرية وتكرِّس الانقسامات الطبقية والاجتماعية الخطيرة داخل عموم المجتمعات العاملة بهذا النظام!
وفي معقل الرأسمالية تشير إحصاءات (مكتب الإحصاء الأمريكي) إلى وجود (37.9) مليون أمريكي فقير في أمريكا وحدها! [مكتب الإحصاء الأمريكي: الفقر في الولايات المتحدة: 2021]. فهل هذا الاستحواذ المالي المتضاعف للشركات الكبرى هو المسؤول عن تكريس المال دُولة وتداولاً بين الأغنياء من الدول والشركات والأفراد؟! وهل هذا مؤشر لسيطرةٍ مُتوقعة لحكومات الشركات الرأسمالية؟!
وأقول معلقاً بعد هذه القراءات والإحصاءات حول هذا الموضوع: لا غرابة أن تتهاوى منظومة الاقتصاد العالمي ببنوكه في أي وقت حاضر أو قادم، وهذا ما تتوقعه وتُحذِّرُ منه بصفة مستمرة الدوائر المالية الدولية المعنية، ولأجل هذا دعا هورست أفهيلد إلى التنوع العالمي في برامج الاقتصاد ونظرياته بين دول العالم للحيلولة دون السقوط الجماعي المُتوَقع حدوثه والمتكررة أحداثه خاصةً البنوك الأمريكية. ولله في خلقه شؤون.
د. محمد بن عبدالله السلومي
باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
[email protected]
المصدر: (صحيفة مكة)
لا توجد تعليقات