تقديم: (لماذا كل هذا الاهتمام؟)
كثيراً ما وردت عليَّ هذه الخاطرة وجاءني هذا التساؤل من أحد الأصدقاء، لماذا هذا الاهتمام والاحتفاء بكتاب القوة من النوع الثالث؟ والجواب المباشر أن الكتاب بنتائجه يستحق الكثير، فهو دعوة للوعي والمعرفة بسياسات القوة العالمية التي طالما عطَّلت نهوض العالم النامي والثالث! والكتاب دعوة للابتكار والإبداع والتجديد في وسائل التنمية والتحضر ويقظة الأجيال، وهو لفتة علمية كبيرة من مؤلف غيور على العالم النامي والثالث، وعلى وطنه وبلاده، خاصةً ما يتعلق بالهوية الثقافية التي كررها في مواضع كثيرة من الكتاب.
وهشام ناظر في كتابه يؤكد أهمية الحفاظ على هذا الأمر لأنه محورٌ أساس، وهو الجانب الثقافي للأمم، ويُعدُّ الدِّين من أبرز مكوِّنات وأساسيات هذا الجانب، وكأنه يؤكد ما قاله كثير من الباحثين عن حضارية الإسلام، وأن الدين الإسلامي لا يتعارض مع العلم والمعرفة والإبداع والابتكار والتغيير به (وليس فيه)؛ حيث كَتَبَ مؤرخون مرموقون من أمثال المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون والباحثة الألمانية زيغريد هونكه وغيرهم كثير عن حضارية المسلمين بدينهم وإيمانهم الذي يحث على العلم والمعرفة، ويضاف إلى هؤلاء ما كتبه مخضرما الحضارتين الإسلامية والغربية، وهما محمد أسد ومراد هوفمان المفكران الأوروبيان، وقد كتبا كثيراً عن الانسجام بين العلم والدين في الإسلام بما ليس موجوداً في الديانات الأخرى، كما هي الحالة الغربية حينما ثار الغرب على ديانته النصرانية -الرافضة للعلم- واستبدالها بالحداثة، بل إن الباحث مايكل كوك Michael Cook قال عن ثراء الإسلام في مفردات الجانب السياسي -مثلاً- وما فيه من العدالة والحقوق: «أن الإسلام يوفر مصادر أكثر ثراءً للمشاركين في العملية السياسية». (موقع إسلام أون لاين)
- عولمة الثقافات المتبادلة:
يُوصف ناظر بأنه شخصية محافظة، لا سيما حينما أوضح عن الكتاب ورسالته بأهمية حضور الأبعاد الثقافية ووجوب سيادة النظم السياسية المحلية لدول العالم النامي والثالث في المحافل الدولية والأممية، كما أنه نبَّه عن مخاطر وعواقب فرض الثقافات الغربية من خلال عولمتها من قِبل الغرب وتسويقها على أنها حقيقة إنسانية بوسائل القوة من النوع الثالث، وذلك في قوله: «فنحن نشهد محاولة لفرض الآلية السياسية الغربية على كل الأمم.. فالقوة والتغيير والمحورية الإثنية والمؤسساتية وُضِعَت معاً في حملة لعولمة الثقافة الغربية. حيث يُعرض النظام الديمقراطي الغربي على أنه حتمية إنسانية، على فرضية أن الآلية الثقافية والآلية السياسية تصوران إنسانين منفصلين وغير مُكمِّليْن لبعضهما البعض» (ص26).
وناظر في عموم كتابه يرى التلازم الكبير بين الثقافات المحلية والسيادة، حينما يُكرر على أهمية وضع الاستراتيجيات، وتقديم المبادرات من قِبَل دول العالم النامي، بدلاً من معارضة دول القوة من النوع الثالث فقط، ومن ذلك قوله: «هناك أيضاً فرصة لهيكلة استراتيجية بعيدة المدى، تتجاوز الدفاع إلى التركيز على وضع خطاب ذي فكر، يعتمد نجاحه على ما يُقدِّمه، لا على ما يُعارضه.. فأقل ما يتضمنه هذا الخطاب، هو تحقيق رؤى تُحفِّز المثقفين في كل البلدان لاستخدام القوة من النوع الثالث بمردود إيجابي على العالم كله» (ص162).
ويكرر ما يجب على العالم النامي فعله في ظل محاولة استعمار القوة من النوع الثالث، وذلك باقتحام الجُدُر الغربية ذاتها لتطبيق رؤاهم المحلية بابتكار وإبداع وتحديث([1])، بل وعدم الاستيراد لثقافات الغرب وأفكاره، وذلك بقوله: «فأحسن وسيلة لتقديم مفهوم ورؤى الدول النامية للحضارة الإنسانية، هي تطبيقها في مجتمعاتهم، بحيث لا يحتاجون إلى استيراد أفكار أجنبية. فالكثير من الدول النامية اليوم ليست في حاجة إلى تقدمية، بقدر حاجتها إلى الأدوات الحديثة التي تُطبِّق بها تلك التقدمية» (ص165).
وهنا ملمح مهم أشار إليه أحد مُقدمي الكتاب بطبعته العربية حول تحقق أو مصداقية كثير من رؤى المؤلف المستقبلية، وذلك بقوله: «صدر كتاب القوة من النوع الثالث باللغة الإنجليزية قبل ثلاثة أعوام من الأحداث العاصفة التي مرت بالعالم في 11 سبتمبر ۲۰۰۱م، وعندما نقرأ الكتاب اليوم نجد أنفسنا نعيش صوراً ومشاهد عَرَض لها المؤلف قبل حين من حدوثها» (ص12).
ويتضح مما ورد في الكتاب إدراك المؤلف كيف أن الغرب يصنع العدو الوهمي واحداً تلو الآخر، من خلال ما يمتلكه من قوة وقوة إعلامية، وواضح أن ناظر يقصد بالعدو الجديد التحول من الحرب الباردة (الشيوعية) إلى حرب الإسلام، وذلك بقوله: «وسيشرح هذا الكتاب كيف أن القوة غيَّرت مجرى الحوار، وكيف تمكَّن الإعلام الدولي من توفير فُرَصِ خلق عدو جديد، لتبرير الاستثنائية التي تمتعت بها الدول الغربية خلال نصف قرن مضى» (ص30).
- ملحوظات ذات أهمية:
في ختام هذه التقدمة لا يفوتني التنبيه على أمرٍ مهم وملاحظة ذات أهمية لدى فئة من القُراء؛ حيث عند النقد للغرب يستنكر بعضهم بقوله: إن الغرب ليس واحداً، ويستدلون بقول الله تعالى عن أهل الكتاب ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ (آل عمران: 113)! والحقيقة أن هذا القول حق ويجب القبول به، فهو من لوازم الإيمان بالقرآن، وهو من الواقع الفعلي كذلك، لكن الذي يعنيه هشام ناظر وأمثاله من الناقدين للسياسات الغربية، هم المتنفذين والنافذين والمتحكمين في السياسات العالمية وقراراتها ومنظماتها ومنظوماتها الأممية، دون الشعوب الغربية المُضلَّلة أو المغلوبة على أمرها بوسائل متعددة، وهذه الشعوب تُعدُّ من أبرز المعنيين بالاستثناء القرآني؛ حيث لا قرار لهم ولا نفوذ بهم يضر العالم النامي والثالث أو ينفعه، بل إن بعض مفكري الغرب المنصفين يُعدَّون من هؤلاء ممن حملوا راية النقد وكشف صنميات حكوماتهم في محاولات الإصلاح، لكن دون جدوى في سماع صوتهم تجاه محاولات استعمار القرية الكونية وسياسات العبث والعدوانية وعدم التسامح مع العالم الثالث والنامي.
وعبارة الصنمية طالما رددها وكررها هشام ناظر في كتابه حول محاولات الغرب لفرض قِيَمه على الآخرين -الثقافية والأخلاقية والاقتصادية- حيث مطلب الاستجابة والإتباع بوسائل القوة من النوع الثالث([2]).
كما أن بعض قُراء آخرين عند توجيه النقد للغرب ينبري بالقول: إن الشرق كروسيا والصين أسوأ في التعاطي مع الديمقراطية والحقوق والعدالة البشرية، والحقيقة أن نقد أيديولوجية الغرب وإمبرياليته على العالم النامي والثالث لا تعني المقارنة مع الشرق (الصيني أو الروسي) أو براءتهما والتطلع إلى الشرق كبديل! ولكنها تعني تحديداً من يحاول احتلال القرية العالمية بأدواته غير العادلة وغير الإنسانية، ويَعدها رمزية التحضر والحضارة! ولهذا فالنقد للغرب ليس لذات الغرب.
ولهذه الاعتبارات أخذ ناظر وأمثاله من مفكري العالم المستقلين على عاتقهم كشف صنميات الغرب التي يقدسها ويُلزم دول العالم بها حسب تعبيرات ناظر المتكررة عن الصنميات الغربية، وإذا لم تكن الاستجابة للغرب فإنه سيعمل على إخراج الدول من المنظومة الدولية أو حضاريتها حسب تعبيرات ناظر، فتحطيم هذه الصنميات علمياً ومعرفياً واجب على المفكرين والمثقفين لئلا تُستعمر الثقافات والهويات للأمم والمجتمعات، وهو ما تصدى له ناظر في كتابه، وأمثاله كثير من منصفي الداخل الغربي ذاته، ومن خارجه في الشرق والعالم الإسلامي، وهي دعوات وكتابات من هؤلاء فيها نشدان للرحمة بالإنسانية وتطلع للعدالة مع البشرية، للحيلولة دون استعمار (احتلال) القرية الكونية وسيطرة الإمبريالية الثقافية الغربية، فالغرب عند ناظر هو المؤثِّر الحالي وهو الفاعل عالمياً، ولذلك لم يتطرق لروسيا أو الصين كقوة صاعدة وخطرة بوحشيتها.
ومن المهم تدوينه عن كتاب ناظر أن الكتاب يكشف عن مدى غياب قيم التحضر والمفاهيم الحقيقية للحضارة في الغرب، من خلال استخدامه وسائل القوة من النوع الثالث لاحتلال الآخرين ومصادرة ثقافاتهم ونهب ثرواتهم (بقوة أخرى غير القوة العسكرية) التي يُلوح بها، فهما قوتان تتكاملان في الاحتلال، وهذا ما يتضح كثيراً من خلال الاقتباسات للموضوعات الواردة في (المقالات السبعة) المرفقة مع هذا التقديم.
لقد أجاد المؤلف ناظر حينما شخَّص الجانب الثقافي الغربي بأنه قوة ثالثة تسندها القوة الأولى العسكرية والقوة الثانية الاقتصادية، لتكون هذه القوة الثالثة ثقافة غربية غالبة تخترق بوسائلها المتعددة العقول كما تحتل بها الإنسان والبلدان. وذلك دون إغفالٍ من المؤلف لقدرة العالم الثالث والنامي على المقاومة الثقافية وتحقيق السيادة بها، فهي قوة لا يستهان بها لدى جميع الأمم، ولذلك تم استهدافها -خاصة في دول العالم الإسلامي- من قِبل دول توازن القوى ومحاولات تحييدها في ميادين التنافس والصراع!
وحول هذه المقالات المنشورة في عدة صحف ومجلات وردتني مقترحات من بعض الأصدقاء والقُراء بجمع هذه المقالات الستة إضافةً إلى المقال القديم، ليكون نشرها جميعاً برابط واحد في شبكة المعلومات؛ لتعميم الفائدة والتسهيل على القُراء، خاصةً أن الكتاب بنسخته العربية غير متوفر بدور النشر، وكذلك غير موجود بنسخة إلكترونية في شبكة المعلومات -حسب علمي-، ولعل في هذا إسهاماً معرفياً لكتاب يستحق، ولمؤلف يستحق أن لا ينقطع تراثه واسمه في ميدان الفكر السياسي، لا سيما أنه أوصى بالتمهيد في كتابه: بأن الحوار حول الكتاب ينبغي أن لا ينتهي.
وأثناء الكتابة لهذه المقالات أو هذه الورقات عن الكتاب حرصتُ على غَياب شخصية محررها عند إعدادها وترتيبها ونشرها، وذلك بالاكتفاء من قِبلي بالاقتباس من أقواله والتعليقات اليسيرة عليها، وتدوين بعض الخواطر أو التعليقات المتواضعة في هذا التقديم بصورة خاصة.
ولا يفوتني في هذا التقديم أن أشكر مترجم الكتاب للغة العربية الدكتور خالد باطرفي، والشكر موصول لدار النشر (مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر)؛ حيث أن هذا الكتاب منافسٌ بحريته السياسية ونتائجه الفكرية لكثيرٍ من كتابات المنصفين من الغربيين وغيرهم، ولهذا فقد أضاف الكتاب إلى المكتبة العربية كتاباً يستحق الإشهار والتميُّز والتقدير.
بالرغم من أن الذي كَتَب ترجمةً وسيرةً ذاتية للمفكر هشام ناظر بكتاب لم يورد أي تعريفٍ أو إشهارٍ عن رسالة هذا الكتاب وأفكاره القوية في العلاقات الدولية (القوة من النوع الثالث)، وهو الكتاب الذي يُعدُّ الوجه الفكري الكبير لهذه الشخصية!
جاءت هذه المقالات المنشورة عن كتاب (القوة من النوع الثالث) لتجيب عن السؤال أعلاه (لماذا كل هذا الاهتمام؟).
للاطلاع على مجموعة المقالات …
______________
([1]) عن موضوع الحداثة بين الغرب والإسلام يمكن الرجوع إلى مقال معني برؤية المفكر مراد هوفمان بعنوان: (قراءة في كتب هوفمان حول رؤيته في الحداثة وأثرها على أفول الغرب) المنشور في: مجلة البيان، العدد414، بتاريخ، 8 سبتمبر 2021م، الرابط التالي:
https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=13645
([2]) وردت الصنمية في عدة مواضع من كتابه، ومنها على سبيل المثال ص91 و ص125 و ص139. وتعريف الصنمية: هي تقديس غير المقدس، واعتباره الحق المطلق، وما دُوُنَه الباطل المطلق، وهو يمتلك الحصانة من النقد أو الملاحظة، ولعل أخطر ما تشكله الثقافة الصنمية على الحياة الاجتماعية عندما تم تبنيها سياسياً، وأخذت تعكس بشكل واضح خصائص ومكونات الثقافة السياسية التسلطية. انظر: مركز البحوث المعاصرة، بعنوان (الصنمية)، 18 مايو 2012م، الرابط التالي: http://tinyurl.com/acdru2xs
لا توجد تعليقات