16 نوفمبر 2023م
تميزت شخصية معالي المفكر الشيخ الحصين العلمية بإضاءاته الفكرية وبإدراك أبعاد كثير من القضايا الثقافية والمسائل الفقهية نتيجة فهم الواقع والقراءة فيه، فهو حينما يكتب عن أي مصطلح تجده يُحلِّله بعرض علمي ومنطقي، وذلك بمنهجية تحديد المفهوم وتبديد أصل الاتهام، بل إنه يُحطِّم قدسية المصطلح المُستخدَمِ خطأً عن مفهومه الصحيح، وهنا -على سبيل المثال- مجموعة من القضايا التي تتعرض للتشويه أو تُستخدم للضغط على الآخرين من خلال إطلاق مصطلحات مُضلِّلة لا تتوافق مع حقيقة الموضوع المُستَهدف، ومن ذلك مناقشته لمصطلح (الأصولية) ومزاعم (وصف الإسلام الحق بالأصولية) بمفهومها الغربي، وإطلاق هذا الوصف على المجتمع السعودي.
وتميَّز الحصين من خلال الحوار مع الآخر بأنه يُحدد مفهوم المصطلح أولاً، ثم يرسم معالم الحوار مع المُحاوِرين ومُحدِّداته، فهؤلاء الموصوفون بالآخر هم من يصفون الثقافة السعودية بالأصولية من متعصبي الغرب، وهو يرى في هذا النوع من النقاشات والحوارات أن من مصلحة الوطن أن يكون الحوار مع هذا الآخر الأجنبي متصفاً بقوة علمية، وشجاعة أدبية، واعتزاز وحكمة، وثقة إيمانية لا مكان فيها للاعتذار أو التبرير، وعن هذا قال: «في الحقيقة أن الذين يَصِفُون -من الغرب- الثقافة السعودية بالأصولية، كما تدل تجربتنا في الحوار مع الآخر، ليس لديهم معنىً محددٌ متفق عليه لهذا الوصف، وإنما الغالب أن المقصود بالوصف بـ (الأصولية) هو الاعتقاد السائد في ثقافة المملكة بوجوب الالتزام بالعقائد والتعليمات التي جاءت بها النسخة الأصلية للإسلام، القرآن والسنة الصحيحة، وكما يُعبِّر بعضهم: كيف نُطبِّق في القرن الواحد والعشرين تعليمات جاءت قبل أربعة عشر قرنا؟ ونرد بأن قِدَم الأفكار لا يكون مبرراً لرفضها، وإنما تُرفض الأفكار أو تُقبل بناء على (موافقتها للعقل) و(لمصلحة الإنسان) وفي هذا المعنى نعتقد أن تعاليم النسخة الأصلية للإسلام هي أرقى وأكثر تقدماً ورُقِيَّاً من الناحية الإنسانية في التاريخ الحاضر والماضي» [مقال للحصين: تجربتي في الحوار مع الآخر].
وينقل الحصين كلاماً للمفكر النمساوي محمد أسد حول ما يُعزِّز الثقة بالإسلام وتشريعاته ومصطلحاته، مقابل قصور الانجازات البشرية الحديثة بأن تبلغ ما بَلَغه الإسلام من تقديم الخير والرحمة والسماحة والعدالة للبشرية؛ حيث يقول أسد: «ليس ثِمَةَ علامة ظاهرة تدل على أن الإنسانية -مع نموها الحاضر- قد استطاعت أن تشب عن الإسلام، بل إنها لم تستطع أن تخلق نظاماً خُلقياً أحسن من ذلك الذي جاء به الإسلام. إنها لم تستطع أن تبني فكرة الإخاء الإنساني على أساس عملي ما، كما استطاع الإسلام أن يفعل حينما أتى بفكرة القومية العليا: (الأمة). إنها لم تستطع أن تشيد صرحاً اجتماعياً يتضاءل التصادم والاحتكار بين أهله فعلاً على مثال ما تم في النظام الاجتماعي في الإسلام. إنها لم تستطع ان ترفع قدر الإنسان، ولا أن تزيد في شعوره بالأمن ولا في رجائه الروحي ولا سعادته.
ففي جميع هذه الأمور نرى الجنس البشري في كل ما وصل إليه مقصراً كثيراً عما تَضَمَّنَه المنهاج الإسلامي، فأين ما يُبرر القول إذاً، بأن الاسلام قد ذهبت أيامه؟» [المرجع السابق].
وبعد هذه الاستدلالات كَتَبَ الحصين بمرافعة علمية بأن الأصولية النصرانية واليهودية هي الأخطر على البشرية، وذلك بقوله: «ويضطر الخصم في نهاية المطاف أن يُسلِّم بما نُنهي به حوارنا معه من قولنا: إذا افترضنا أن الثقافة السعودية السائدة (أصولية) فهي (أصولية درداء) أي بدون أسنان، فلا تقارن بأصولية أسنانها (الرؤوس النووية) و(صواريخ توما هوك). إن الأمر سهل والهجوم المضاد أيسر، وإنما نحتاج إلى إدراك الحقائق على أرض الواقع، وإلى قليل من الشجاعة، وكثير من الحكمة» [المرجع السابق].
والحصين في هذا الطرح عن ما يسمىُ أصولية الإسلام المُختلِف عن غيره من الديانات، يؤكد هذا الاختلاف من خلال أقوال واستنتاجات من عاش حضارة الغرب وذاق طعم الإسلام بعدها وهو محمد أسد المُدرك لحداثة الإسلام ولحقيقة المصطلحات وطبيعة الانجازات الحديثة، حينما أكَّد رُقي الإسلام وتقدمه وما فيه من إسعاد للبشرية جمعاء، ثم إن الحصين بكلامه السابق يُقارن بشيء من التهكم الهادف بين من لا يمتلك القوة لعرض ثقافته أو أصوليته كما يقولون! -فضلاً عن فرضها- وبين الغرب الذي يمتلك كل أنواع القوة لفرض ثقافته على الآخرين بأسنان النووي والصواريخ!
والحصين بهذا التبديد لغموض مصطلح الأصولية، من خلال تفكيكه وتحديد مفهومه، يؤكد بأن هذا لا يتطلب سوى الشجاعة والحكمة كما يقول، وكثير من المفكرين من أمثال الحصين نَبَّه لمخاطر غموض المصطلحات التي يُطلقها الغرب وأثرها وخطرها خاصةً في عالم السياسة والعلاقات الدولية، ومن هؤلاء هشام ناظر -رحمه الله- في كتابه (القوة من النوع الثالث – محاولة الغرب استعمار القرية العالمية).
ويتصدى الحصين لمصطلح آخر، حينما يُؤصِّل لبعض المفاهيم ويُبدِّد أخرى حوله، وهو مصطلح (الوطنية) و(الأمة)، وعنها كَتَبَ فقال: «من الطبيعي في مجال فكرة (الوطنية) أن يُعبِّر غير العربي بـ(الأمة الفرنسية) و (القومية الفرنسية) والإيطالي (الأمة الإيطالية) و(القومية الإيطالية) مثلاً . ولكن ليس من السهل على العربي وهو يتحدث عن الوطنية الكويتية أو الوطنية القطرية أو الوطنية البحرينية، أن تَرِد على لسانه مهما كان حماسه للوطنية وارتفع صوته بها، أن ترد على لسانه (الأمة) القطرية أو البحرينية أو الكويتية أو (القومية) القطرية أو البحرينية أو الكويتية. وهذا ييسر لنا فهم الاختلاف الجوهري في تصور الوطنية بين البلدان العربية والبلدان الأخرى خارج العالم العربي» [محاضرة للحصين: اقتراح لصياغة مفهوم للوطنية السعودية].
كما أنه كَتَبَ عن مصطلح فقهي يُحرِّم المسألة المتعلقة بـ(التورق النقدي)، وعدم صحة قياس الحاضر البنكي ببيوع الماضي كما هو واقع بعض الفتاوى، وذلك بقوله: ««بل إنّ الإنسان لا يَنتهي عجَبُه من غفلةِ أو تغافُلِ بعض أهل العلم, عندما يتعلَّقُون بمصطلحاتٍ اختَلَف فيها المتقدِّمُون من الفقهاء، ولا يَعتبِرون بتغيُّرِ المضمون والمعنى والطبيعة بين المصطلَح الذي وقع فيه الخلافُ الفقهيّ، كمصطلح التورُّق، وما تسميه البنوك التي تَمنَحُ القروضَ الربوية في الوقت الحاضر (تورُّقا)!، بل لا يَخطُر في بالِهم هذا السؤال: (هل الصورةُ التي تُنفِّذُ بها البنوكُ في الوقت الحاضر عملياتِ اقتراض الموظَّفِين بضمان رواتِبِهم وتُسمِّيها تورُّقًا هي صورةُ العمليات التي يُسمِّيها الفقهاءُ (تورُّقا) ويوجَد الخلافُ الفقهيّ حولها؟)» [رؤى تأصيلية في طريق الحرية من كلام الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين، ص50].
ويؤكد الحصين عن مخاطر المصطلحات أو الجهل بها، حينما يضرب هنا بإحدى الأمثلة عن موقف عالِم من الأزهر الشريف ممن أجَاز (قروض الربا!) قائلاً: «لقد انخدع العالِم الفاضلُ بالاصطلاح، فلم يَنتبِهْ إلى أنّ القرض في اصطلاح الفقه الإسلاميّ هو غيرُ المعاملة التي تُسمِّيها البنوك العربيةُ القرْضَ بفائدةٍ، وتُسمّيها البنوكُ الأجنبية والبنوكُ العربية عند ما تَستعمل لغةً غيرَ العربية (القرض بربا) Interest، فبَيْن المعاملتين – بالرغم من التماثل في التسمية – اختلافٌ جَذْريّ في الطبيعة والأحكام» [مقال للحصين: هل للتأليف الشرعي حق مالي؟].
خداع المصطلحات:
كَرَّرَ الحصين التنبيه عن خداع المصطلحات وحول أهمية فهم تلك المصطلحات، وما فيها من جوانب اللبس عند الاستجابة لها، أو العمل بمتطلباتها دون فهم لحقيقتها، وبالتالي تكون جناياتها كبيرة خاصةً لدى طلبة العلم الشرعي، مُوضِّحاً أن المصطلح له مفاهيمه المختلفة لدى مصدِّريه أو صانعيه، وذلك بقوله: «ولقد كشَف غيابُ المعرفة بالمصدر التاريخيّ لتلك المعاملات عن خلَلٍ كبير في تصوُّرها لدى طلبة العلم الشرعيّ، ظهر هذا الخلَلُ في الانخداع بالمصطلَحات أو بوجوه الشّبَه مع الغفلة عن وجوهِ الفرْق، كما ظهر في عدَمِ إدراك مُحدِّدات تطبيقِها في البلدان التي استُورِدت منها» [ورقة للحصين: ضرورة تأهيل القاضي المعاصر].
ولأن موضوع المصطلح داخل في بعض الاستراتيجيات العالمية أو حتى الحروب الدولية الاقتصادية والسياسية والفكرية، فإن الحصين قد أعطى لمناقشة المصطلح أهمية، فهو في إحدى نقاشاته نبَّه إلى جنايات المصطلحات ومخاطرها، وذلك بمناسبة أحد الملتقيات المعنية بالقضاة موضحاً لهم مخاطر الغفلة عن الفروقات في مفاهيم المصطلحات عند (غياب المعرفة)، قائلاً: «ولقد كشَف غيابُ المعرفة بالمصدر التاريخيّ لتلك المعاملات عن خلَلٍ كبير في تصوُّرها لدى طلبة العلم الشرعيّ، ظهر هذا الخلَلُ في الانخداع بالمصطلَحات أو بوجوه الشّبَه مع الغفلة عن وجوهِ الفرْق، كما ظهر في عدَمِ إدراك محدِّدات تطبيقِها في البلدان التي استُورِدت منها، فجَرَّ ذلك إلى نوعٍ من تجاوُزٍ لمقتضيات العدل ورعاية المصلحة العامة الذي كان هدَفَ وجودِها في تلك البلدان» [المرجع السابق].
ويوضح الحصين تأثير (الثقافات الأجنبية) بلغاتها في إثارة الشبهات، وفي إلحاق الهزائم النفسية والثقافية لدى المتلقين في كل مكان بأساليب تعتمد على فرض (المصطلح) أو قهره، أو سحريته كوسيلة حرب فكرية أو سياسية ناعمة على جميع الأمم بما فيهم المسلمون، وعن هذا كَتَبَ فقال: «هذه المظاهر المادية من السهل إدراكها، ولكن للثقافة الغربية تأثيراً أكثر عمقاً وأبلغ أثراً على الحياة، وأعنى به التأثير على اللغات المحلية، ومنها لغات شعوب العالم الإسلامي، ولا يحتاج الإنسان إلى أكثر من ذكاء الرجل العادي وقليل من التأمل، ليدرك العدد المهول من التعابير والمصطلحات والألفاظ التي اقتبستها اللغات الأخرى عن طريق الترجمة الحرفية من اللغات الأوربية. وبما أن اللغة كما يقال تفكير ناطق والتفكير لغة صامته، فإن من الطبيعي أن يقع تأثير هذه الظاهرة على تصورات الإنسان عن الطبيعة والحياة» [مقال للحصين: هل من الممكن أن نتحرر من هذا الرق الثقافي؟]. وهو بهذا يُشير إلى قوة العلاقة بين الفِكر واللغة كما قرر ذلك أهل الاختصاص، وهو ما يحسن التنبه إليه.
والحصين حينما عاش في عصر خداع المصطلحات وحربها وجنايتها بحق الإسلام والمسلمين بصورة خاصة، لم ينسَ (الإعلام) ودوره الكبير في تغذية حرب المصطلحات وتضليلها، وإشاعة التشويش والاضطراب المجتمعي بها، قائلاً: «وساعَد على ذلك استعمالُ الإعلاميِّين لمصطلحاتٍ غامضة، كالأصولية، والغلوّ والتطرف، والإرهاب، فأصبحتْ هذه المصطلحاتُ -بسبب غُموضها وعدمِ تحديدها والنسبيةِ المطلقة لمدلولاتها- تُثير مخاوفَ وهمية، وردودَ فعلٍ لا عقلانية، وتوجِد بلبلةً واضطرابًا في تقويم المجتمع للأشياء، والأشخاص، والآراء» [بحث للحصين المملكة العربية السعودية والدعوة الإسلامية – رؤية مستقبلية].
ولهذا فإن الحصين بدافع النصح والإصلاح يحذر بقوة من المخاطر والآثار على بلاد الحرمين، بل وكافة البلاد العربية والإسلامية من حرب المصطلحات إعلامياً وسياسياً، حينما كتب عن رؤيته المستقبلية لبلاده (المملكة العربية السعودية) في إحدى الأوراق العلمية المنشورة، وذلك بقوله: «ومن أبرز التحدِّيات ضدَّ الدعوة الإسلامية الحاجزُ الفكريُّ الهائلُ المتّسِمُ بالقوة والشمولِ الذي يركِّزُ على تشويهِ الإسلام، وتزييفِ الحقائق عنه، وإيجادِ أفكارٍ سابقة مُضلِّلة تشكِّلُ دفاعاتٍ يصعُب اختراقُها من قِبَلِ أيِّ نصير للحقّ وعدوٍّ للزيف والتضليل» [المرجع السابق].
والحصين بهذه اللغة العلمية والحوارية المنطقية يطرح ما يرى أنه يكون ضوابط في نقاش المصطلحات خاصةً المسلم؛ حيث وجوب تحرير المصطلح بتحديد بيئته ومفهومه وتاريخه، مع الالتزام عند الكتابة أو الحوار بمرجعية الكتاب والسنة بصورةٍ واضحة لا لبس فيها مع الخصوم، وأنها من المُسلمات، وأن أقدمية الأفكار لا تُبرر رفضها، وأن التعددية الدينية والثقافية مكفولة ومُتلازمة مع حقوق الإنسان وخصوصيات الأمم.
وكما أن هذا الطرح يكشف عن مخاطر المصطلحات وتضليلها وآثارها الدينية والسياسية على المُتلقي، فإن هذا يكشف كذلك عن عُمق فكر الحصين بتوضيح أكثر للجوانب الفقهية الكامنة بالمصطلح في الإسلام، مع التشخيص الواقعي للواقع الدولي وإدراكٍ لضغوطاته المبرمجة بصورةٍ مستمرة، وكشفٍ لسحرية المصطلحات وأبعادها لدى الآخرين، بل وبتقديم ما يراه من حل للحَرَج المحلي تجاه بعض المصطلحات والشعارات الصادرة من الغرب، أو المُستورَدة من ثقافة الغالب أو المتغلب، ورحم الله فقيد العلم والفكر والمعرفة الذي أدرك مثل غيره من المفكرين أصحاب الرؤى الشرعية مخاطر المصطلحات، وأنها في بعض أحوالها من حروب الحضارة الحديثة، بل إنه احتسب المرافعات -أحياناً كثيرة- عند استهداف دينه وبلاده ببعض حملات المصطلحات. والله ولي التوفيق.
د. محمد بن عبدالله السلومي
باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
المصدر: (صحيفة مكة)
لا توجد تعليقات