الخميس – 20 يوليو 2023م.
كتب المفكر الشيخ صالح الحصين عن الوقف في الإسلام في أكثر من موضع من كتبه وكتاباته، ومن أبرزها ورقة علمية قدمها للمؤتمر الأول لجمعيات تحفيظ القرآن بالمملكة والمنعقد بمدينة الطائف عام 1425هـ، إضافة إلى معايشته العملية للأوقاف من خلال شراكته ومسؤوليته في كثير من اللجان الوقفية العليا والفرعية، ولديه طروحات فيها تجديد وتحديث لإضفاء الإحياء والفاعلية للأوقاف في العالم الإسلامي، وفي الجانب العلمي للأوقاف جمع الحصين فيه بين الفكر والفقه، وبين التأصيل والتحديث، ويمكن إجمال أبرز محاور رؤيته في التأصيل والإحياء، والتجديد والتحديث، والفاعلية والحماية، وجوانب التنمية الشاملة والمستدامة في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: (أهمية الأوقاف التشريعية والتاريخية):
كتب عن هذه الأهمية البالغة للتنمية المستدامة للمسلمين من خلال تشريعات الإسلام بكلماتٍ مختصرة وموجزة أوضح فيها الأهمية والقيمة وتفاعل المسلمين عبر العصور بالتنوع التنموي، وذلك بقوله: بعدما شَرَعَ النبي صلى الله عليه وسلم الوقف قولا وعملا، اهتم الصحابة رضوان الله عليهم بالوقف في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته، فروي أن الخلفاء الراشدين أوقفوا، وروي الوقف عن العشرة المبشرين بالجنة وعن أمهات المؤمنين، بل روي أن كل الصحابة من كان منهم ذا سعة وقف، وأخذ المسلمون بهذه السنة المباركة، على مر العصور، وفي مختلف البلدان، وعلى مختلف الأغراض، فلم يبق عمل من أعمال البر، ولم تظهر أي مصلحة من المصالح العامة إلا وقف عليها، وقف على الفقراء والمساكين والأيتام، وعلى مصالح الناس من المساجد، والمدارس، والمشافي، والطرق، والأنهار، والجسور، والمساقي، وقفوا على الإنسان والحيوان الإنسي والوحشي” [المجموعة الكاملة لأعمال الشيخ صالح الحصين، مركز تكوين، ج4/ص159].
وعلى المستوى التاريخي للمسلمين كانت الأوقاف عامل نهضة وحضارة ومصدرا من مصادر قوتهم وسيادتهم، ومعالجة حياتهم الاقتصادية، لا سيما مع توسع بلدانهم وفتوحاتهم وعمرانهم، ولذا كان نظام الخراج الذي جعل من كل الأراضي المفتوحة وقفا ومصدرا للنماء الاقتصادي والاجتماعي للبلدان، وذلك بقوله: “حلَّ المسلمون بالوقف أعظم معضلة اقتصادية واجهت ولا تزال تواجه البشرية، فلا يزال السؤال الأزلي يوجه دائما، هل تتجه الدولة إلى الملكية العامة؟ أم تتحيز للملكية الفردية؟ تذبذبت البشرية بين الشيوعية، والرأسمالية، وواجهت ويلات النظامين” [المرجع السابق، ج4/ص159].
الوقفة الثانية: (مبادئ الحماية والفاعلية في الحفاظ عليه):
كتب الحصين عن حماية أصول الأوقاف بعدم التصرف بها أو العبث بريعها، واحترام شرط الواقف، وولاية القضاء الشرعي كوسائل للحماية والقوة للوقف، والاستقلال والفاعلية، وعن أبرز المبادئ التي قام عليها الوقف أفاد بقوله: “1- امتناع التصرف في أصل الوقف، وقد تحقق بهذا المبدأ حماية الوقف وعدم تعريضه لطيش المتولين عليه أو سوء نيتهم.
2- ما استقر لدى الفقهاء من أن (شرط الواقف الصحيح مثل حكم الشارع) فتحققت بذلك حماية الوقف واطمئنان الواقف إلى استمرار صرف وقفه في الأغراض التي تهمه ويعنى بها.
3- ولاية القضاء على الأوقاف، فتحققت بذلك حماية الوقف من تدخل السلطات الإدارية الحكومية” [المرجع السابق، ج4/ص160]. وهذه المبادئ الثلاثة مجتمعة مما يضمن استقلالية الأوقاف وقوتها وحمايتها من الأيدي الطائشة ومن تقصير النظار وقصور الولايات على الأوقاف.
الوقفة الثالثة: (استهداف المستعمر لمكامن القوة السيادية):
أكد الحصين على أهمية الأوقاف لدى دول الاحتلال لبلدان العالم الإسلامي، وذلك بإدراك هذه الدول المحتلة للفاعلية الحضارية للأوقاف في العالم الإسلامي عبر عصور التاريخ، فعمل المحتل على إضعاف هذا الجانب بوسائل متعددة، وذلك بهدف إضعاف سيادة الأمة وقوتها بأوقافها التي ولدت حضارة الإسلام والمسلمين عبر العصور، وذلك بقوله: “حينما استولت الدول الاستعمارية على بلاد المسلمين في القرنين الماضيين، وكانت تدرك أن الصراع السياسي يعتمد في حسمه على نتيجة الصراع الثقافي والحضاري، كان هم الاستعمار الأول القضاء على الحضارة الإسلامية أو إضعافها إلى أقصى درجة ممكنة، ولما كان (الوقف) هو سند الحضارة الإسلامية وأساس قوتها كان من الطبيعي أن يتوجه المستعمر إلى إضعاف نظام الوقف أو القضاء عليه. وكانت وسيلته في ذلك إدخاله في مجال التنظيم الإداري الحكومي تمهيدا لوضعه تحت سلطة الإدارة وسيطرتها. وحققت هذه السياسة نتائجها فقضي على نظام الوقف تقريبا في العالم الإسلامي أو شلت فعاليته” [المرجع السابق، ج4/ص161].
ويرى الحصين أن آثار الاحتلال لا زالت عالقة في تعاطي المسلمين مع الأوقاف بنظم بيروقراطية تضعف آثاره وفعاليته وشراكته التنموية، وذلك بقوله: “واستمرت هذه السياسة المشؤومة في بلدان العالم الإسلامي حتى بعد زوال الاستعمار” [المرجع السابق، ج4/ص161].
الوقفة الرابعة: (الوقف TRUST في عالم الغرب بقطاع ثالث):
في الوقت الذي تعامل المحتل بإضعاف أوقاف المسلمين في كثير من البلدان الإسلامية أو تعطيل فاعليتها وقوتها، عملت دول الاحتلال على نقل فكرة الأوقاف من المسلمين وتطويرها لتكون الأوقاف في الغرب (الترست) قائمة على مبادئ الإسلام تقريبا؛ حيث الاستقلالية بالقضاء، وأنها غير حكومية، وأنها قطاع ثالث، فالأوقاف بقطاعها الخيري حسب التسميات المتعددة في الغرب (القطاع المستقل، والقطاع غير الحكومي، والقطاع الثالث)، وللتسميات دلالات في التنمية الشاملة والمستدامة، وعن التعاطي الإداري لدى الغرب كتب الحصين فقال: “إن من أعطوا الحكمة في معاشهم وعلموا ظاهرا من الحياة الدنيا ممن يسمونهم الدول المتقدمة قد انتبهوا لهذا الأمر فحذروه أشد الحذر. على سبيل المثال: يوجد في المملكة المتحدة البريطانية، والولايات المتحدة الأمريكية، والدول التي يسود فيها النظام القانوني الإنجلوسكسوني نظام يشبه الوقف يسمى (الترست Trust). وقد حرصت حكومات هذه البلدان على عدم التدخل في هذا النظام، واقتصرت على إيجاد نوع من الإدارة يهتم بالرقابة، والمعاونة، وتجميع المعلومات، وتقديمها لذوي العلاقات وأبقت لهذا النظام خصوصيته وفرديته، وحذرت أن تتدخل في إدارته وليس المجال متسعا لبيان نتائج هذه السياسة الحكيمة والتي من أهمها تطور هذا النظام، واتساع نطاقه، وقدرته على التحرك ومواجهة حاجات المجتمع المختلفة، والمتعددة والمتغيرة” [المرجع السابق، ج4/ص160].
الوقفة الخامسة: (تحقيق العدل والعدالة المجتمعية):
يرى الحصين أن من مكامن الخطر على الأوقاف تأميمها بإخضاعها للموظف العام كما هو الحال في معظم دول العالم العربي، وأثر هذا على تحقيق العطاء والعدالة الاجتماعية وتطبيع دورها التنموي المستدام والشامل، بالرغم من تنامي فكرة الخصخصة التي يجب أن تستفيد منها الأوقاف كغيرها، وحول هذا قال متحسرا ومحتسبا: “إن من المفارقات العجيبة أنه في هذا العصر الذي كشف عن خطأ سياسة التأميم، واتجه بكل قوة إلى الدعوة إلى تخصيص المشاريع، مع ما هو واضح من تأثير التخصيص على العدالة الاجتماعية ومتطلباتها، نرى من أبناء وطننا من أهل الخير والصلاح والعلم، ومن العاملين للإسلام الحاملين همه من يدعو أو يحبذ أو يؤيد السعي لتأميم الأوقاف، وإخضاعها لسيطرة الموظف العام، مع أن نظام الوقف كان في الإسلام وطوال تاريخه من أعظم وسائل العدل الاجتماعي” [المرجع السابق، ج4/ص163].
الوقفة السادسة: (الأوقاف المشتركة والمشاركة المتناقصة):
يرى الحصين أن من وسائل الإحياء والإعادة للأوقاف وشراكتها التنموية بقوة، بعد فترات طويلة من الغياب للدور الكبير المنتظر من هذه الأوقاف في مصالح الأمة الكبرى والصغرى، أهمية العمل بفكرة (الأوقاف المشتركة)، وهي من وسائل تنمية الأوقاف والإكثار منها وتنوعها، وكذلك من خلال العمل بوسيلة تنموية استثمارية يسميها الحصين (المشاركة المتناقصة)، وهي مما يحقق ضمانات الاستقرار المالي للجمعيات والمجتمعات والدول، ويطرحها بقوة خاصة مع الجمعيات ذات التراخيص الرسمية، حيث يتحقق الاطمئنان بولايتها، ويكون بها عدم الخوف من ضياع الوقف حين تسجيله لصالح جمعية خيرية معينة لا حد لعمرها، وهو حل مثالي عملي، وقد أوضح الحصين فوائد وصيغة الأوقاف المشتركة بقوله: “إن هذا الوقف يعطي الفرصة للوقف لدى ذوي الدخول المحدودة، فكان الوقف المشترك حلا مثاليا يتيح لكل راغب في الوقف مهما كانت قدرته المالية، ومهما قل المبلغ من المال الذي يرغب أن يحصل به أجر الوقف، يتيح له الفرصة في الوقف المشترك كمساهم في ماليته، ورب درهم سبق ألف درهم؟” [المرجع السابق، ج4/ص164]. ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:261).
والخلاصة أن الحصين بهذا الطرح الناصح لأمته المسلمة ولوطنه وللجمعيات والمجتمعات، يطرح الفكرة ويدلل عليها بالتأصيل العلمي وتشخيص الواقع، مع معالجته بلغته العلمية التي تجمع بين الإيمان والإقناع العقلي والمنطقي، وبين الفقه والفكر، ورحم الله رجالنا العظماء.
د. محمد بن عبدالله السلومي
باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
[email protected]
المصدر: (صحيفة مكة)
لا توجد تعليقات