- مدخل:
تتدافع معظم الأمم بتنوع هوياتها القومية والدينية على بناء ذاتها وقوتها وسيادتها من خلال تجانسها واندماجها تحت الأمة الواحدة؛ بدوافع البحث عن قوة لها أكبر واتساعٍ ديموغرافي أكثر من المفاهيم الوطنية الجغرافية الضيقة، فمثلاً العمل بمفهوم الأمة الأمريكية (American Nation) جعلها تتجاوز الحروب الداخلية بين ولاياتها الخمسين ولاية، واختلاف أعراقها وأديانها بعد اتحادها باسم “الولايات المتحدة الأمريكية” لتواجه بهذه الوحدة الأممية ومبادئها الأمم الأخرى وحضاراتها وثقافاتها وسياساتها واقتصادها.
وكذا عملت دول أوروبا باسم الأمة الأوروبية الواحدة التي تجاوزت -مؤخراً بعد الحرب الأوروبية العالمية الثانية- بمفهوم الأمة تنوع اللغات وتحدياتها وتعدد المذاهب الدينية النصرانية وتناحرها وحروبها، كما أن أوروبا تتباهى باتحادها لتجعل منه نموذجاً عالمياً للمواطنة العابرة للحدود القومية، بل إن دول الغرب عامة تُبشر بالعولمة وتعمل على إحلالها عالمياً بجميع المجالات بما فيها الجانب الثقافي، وكذا فعلت دول أخرى، حيث الأمة الصينية والروسية والهندية والتركية بأعراقها المتعددة وغيرها من أمم الأرض لتكون أمة واحدة أو دولة واحدة.
وأكثر من هذا أن فرنسا ابتدعت الأمة “الفرانكوفونية” لتصنع بها اندماج شعوب وأمم كانت تحتلها! وكذلك فعلت بريطانيا بما يُسمى “دول الكومنولث” البريطاني كأمة واحدة تربطها اللغة الإنجليزية وحقبة الاحتلال البريطاني البغيض!
وكل هذا من المحاولات لصناعة الأمم القوية التي تقوم على مفاهيم اللغة أو القومية أو الدين والثقافة، لكن مفهوم (الأمة في الإسلام) يختلف من حيث مقوِّماته اختلافاً كبيراً عن الأمم الأخرى؛ حيث المفهوم في الدين الإسلامي يقوم على العقيدة الواحدة التي تصنع الأُخوَّة والتسامح، والمساواة والعدالة بعدم التمييز الطبقي، وذلك بالرغم من اختلاف الأعراق واللغات بين المسلمين في أنحاء الأرض، ولهذا فإن مفهوم الأمة في الدين الإسلامي يأخذ بعداً واسعاً وقوياً بجانبه العقدي (الأيديولوجي)، فهو دينٌ لا يختزل الوحدة والاتحاد بأفقٍ ضيق في بُعدٍ واحد من أبعاد ومقومات الأممية المُعاصِرة كالبعد السياسي أو الاقتصادي أو العِرقي على سبيل المثال.
وبعيداً عن جدلية المصطلح وتكويناته الفلسفية والفكرية لدى الأمم الأخرى فإن المفهوم يختلف في الإسلام، وبالتالي يختلف لدى علماء الإسلام ومفكريه من خلال أقوالهم وتفسيراتهم لمفهوم الأمة المسلمة ووسائل تحقيقه.
فالأمة في الإسلام محورها الأساس هو: الدين والجماعة البشرية التي تتمحور حول دين وعقيدة، وتسعى وتعمل على تحويل هذا الدين أو تلك العقيدة إلى وقائع وحقائق، هذه الجماعة البشرية يطلق عليها مصطلح (الأمة)؛ حيث الأمة هي التي تُفرز الدولة، والدين الإسلامي بتشريعاته وقِيَمه هو الأداة التي تُحقق بها الأمة وجودها الفعلي، والأمة بمفاهيمها وقِيَمها هي التي تقود إلى الوحدة، والوحدة تؤدي إلى الدولة وقُوَّتها، والأمة والدولة تتكاملان في الأصل ولا تتناقضان في تشريعات الإسلام وقِيَمه، ويوم أن تتعارض أو تتناقض سياسات الدول الوطنية الحديثة في العالم الإسلامي مع مشروعات الأمة ومؤسساتها الأهلية على سبيل المثال فإن الأمة المسلمة تكون في خطر، بل حتى الدولة الحديثة تكون في ضعف وضمور أو زوال لفقدان هويتها أو ضَعْفِها.
فما هو مفهوم (الأمة المسلمة) لدى المفكر الأوروبي الألماني (1931-2020م) المخضرم دينياً؟ الذي عاش الكاثوليكية خمسين عاماً، ثم عاش الإسلام أربعين عاماً تقريباً، وقد حسن إسلامه، وكتب بعمق عن الحضارتين الغربية والإسلامية، وعاش الحياة السياسية والدبلوماسية من خلال عمله الوظيفي في الخارجية الألمانية! ومن خلال عمله في أمن المعلومات في حلف الناتو، وهو مع هذا وذاك القانوني المتخرج من جامعة هارفارد.
والجواب حول هذا التساؤل يكمن في كُتب هوفمان نفسها، فمن خلال قراءتي البحثية في كُتبه وإعداد كتاب عنه وعن أبرز رؤاه بعنوان (المفكر الألماني مراد “ويلفرد” هوفمان – رؤيته في احتضار الغرب! وصعود الإسلام!) وجدتُ أنه يطرح مفهوم الأمة المسلمة على أساس أنها ميزة في الإسلام وأولية وواجب على المسلمين، وذلك بالعمل على تحقيقها بالوعي وبالتربية والتعليم، لا سيما في العالم المعاصر؛ حيث التحديات الكبيرة على الإسلام والمسلمين، وأهمية مواجهتها بالوسائل المشروعة والمتاحة، استجابةً لدينهم وحقاً مشروعاً لهم كحال الأمم الأخرى في ممارسة الأممية ولوازمها كما يقول هوفمان عن هذا ويُكرِّره.
- هوفمان والفردوس الاجتماعي!:
عن مفهوم الأمة وجدتُ أن كثيراً من كتاباته وكُتبه تتضمن بصورةٍ مباشرة وغير مباشرة الحديث عن موضوع الأمة وأنه ميزة وقوة في الإسلام يستحق التدوين والإشادة، بل إن مفهوم الدولة الواحدة للمسلمين أو الخلافة يجب ألا يكون هدفاً رئيساً للمسلمين حسب رؤيته، فهو يرى أن هذا خلاف الأوليات، وقد عاش هوفمان بعصر كان يرى فيه أن المسلمين بحاجة لما هو أهم وأكبر من الخلافة؛ حيث العمل على تعزيز مفاهيم الأمة الواحدة بروابط العقيدة وقيم الدين الموُحِّدة أولية وواجب، لما تُقدمه مفاهيم الأمة المسلمة من قِيَم عجزت الحضارات الأخرى عن تقديمه حتى العصر الحاضر.
وعن هذا كَتَبَ هوفمان، ومما قال: «من هذا المنطلق لا بد أن يرى الغربيون الذين يتمتعون بحس المسؤولية ما يشبه الفردوس الاجتماعي، عندما يدركون أن الإسلام –من الناحية النظرية في الحد الأدنى وفي واقع الممارسة في الغالب– هو الدين الوحيد الذي حلَّ مشكلات العنصرية والتعددية الدينية، بإعطائه الأهمية للتقوى وليس للون البشرة، وبقبوله لأيٍّ كان عضواً في هذه الأمة. وبالتسامح التام مع الديانات الأخرى. فعندما اكتشف مالكوم إكس Malcolm X الطبيعة متعددة الأعراق للأمة الإسلامية كان ذلك بمثابة وحي بالنسبة إليه. دعونا نحقق أقصى الفائدة من هذه الفضيلة بأن نحياها، وبأن نجعل اللون والطبقة الاجتماعية والمذهب واللغة وكل ما شابه ذلك من أشكال التمييز أشياء لا مكان لها بيننا، لقد اختار ملايين الأفارقة الأمريكيين الإسلام ليس لمجرد أن بلالاً أسود البشرة، فَلِمَ لا يَحْذُ ملايين آخرون حذوهم لاعتبارات مشابهة؟».
والحقيقة أن وحدة الأفكار والقيم والأخلاق في الإسلام، وقبل هذا توحيد العقيدة، ثم تفوِّقها ونجاحها في عالم المسلمين اليوم يُعدُّ من الانتصار لدينهم، ولا سيما في نهايات القرن المنصرم وبداية القرن الواحد والعشرين الميلادي، وهو ما يُعدُّ مقدمات مبكرة لوحدة الأمة، وبالتالي يكون انتصار الأتباع من اللوازم والنتائج، فالأفكار والعقيدة الواحدة تُعدُّ العامل الموحِّد الأساسي للشعوب والأعراق والدول بصورةٍ عامة، فكيف بها مع الإسلام والمسلمين في توحيد أمتهم! فالوحدة السياسية أو الاقتصادية للأمم الأخرى في غالبها إنما تقوم على المصالح دون المبادئ، وفي الغالب أن هذا النوع من وحدة الأمم لا يدوم -كما هو حال معظم دول الغرب- مثلاً، واستمرار تلك الوحدة فترةً من الزمن في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية 1945م راجعٌ إلى توحدها واستخدام قوتها -في الغالب- من صناعة النزاعات والحروب ضد الآخرين كعامل بقاء موحِّد للداخل مثل واقع أمريكا وأوروبا باختلاف وتفاوت في بعض السياسات، بالرغم من أن اتحاد بعض أو معظم دول الغرب لا يزال الحكم على استمراره ونجاحه مبكراً. وهذا يعني أن المسلمين بمفهوم “الأمة الواحدة” القائم على العقيدة الواحدة والكتاب الواحد (القرآن) يمتلكون عامل وحدة أقوى حول مشروع نهضتهم وسيادتهم المأمولة عند كل مسلم، بل إن منافسة الإسلام في مفهوم القوة والوحدة النابعة عن عقيدتهم هي قضية المسلمين الرابحة، حتى وإن كانوا لا يمتلكون -بحالتهم الراهنة- أهم الأدوات والوسائل القوية ذات الأثر والتأثير والتمكين!
ويُوضِّح هوفمان عن هذه القوة في مفهوم الأمة، بأنها حقيقة مرئية ملموسة بين المسلمين في الغرب، كما يُنبِّه إلى حاجة المسلمين وغير المسلمين إلى الدفء والرحمة والحنان في عصرهم الحاضر، وذلك بقوله: «فالإسلام يأتي بعائلة هي “الأمة”. والأخوة في الإسلام حقيقة ملموسة تتفوق على فكرة “حب الجار” السائدة بين النصارى الغربيين. فإذا كان البرود العاطفي في المجتمعات الغربية (وليس أمريكا الخضراء الموعودة) قد أصبح حقيقة واقعة، وأظنه كذلك، فإن الأمة الإسلامية في توفيرها للدفء والحنان والتعاطف إنما تُلبي حاجة أساسية للشباب الغربي المعاصر». وهو بهذا يؤكد الفروقات الكبيرة في مفهوم الأمة بين الغرب والإسلام، لا سيما وقد عاش نمط الحياة الغربية وما فيها من برود عاطفي، كما عاش حياة الإسلام وما فيها من التعاون والتعاطف والتراحم والعلاقات فيما بين أمة الإسلام الواحدة.
وهوفمان الذي يطرح هذه الرؤية عن مفهوم الأمة في كثيرٍ من كُتبه كَتَبَ بوضوح عن مستقبل انتصار الإسلام بالمجتمع وبمفهوم الأمة المسلمة دون شرط الدولة أو الخلافة! مع نقده لمفهوم الدولة الوطنية الحديثة، ومما قال: «عندما نشأ الإسلام لم تكن هناك أية ديمقراطيات في هذا العالم، كما أنه لم تظهر أي منها لمدة ألف سنة تالية. فالقرآن –وكما كل الكتب المقدسة- يتعامل مع شؤون العائلة والمجتمع –الأمة الإسلامية- وليس مع تنظيم دولة، بغض النظر عن كونها مَلَكِيَةً أو جُمهورية. إن الإسلام لا يمكن أن ينجح دون مجتمع إسلامي تقوده الشريعة، ولكنه يُمكن أن يَنجح دون دولة. إن فكرة الدولة الوطنية ليست إسلامية على الصُّعد كافة». وهوفمان يقصد بهذا القول أن بناء الأمة أوْلى وأهم من بناء الدولة الواحدة للمسلمين، مع أن الدولة في النهاية هي المُخرج الطبيعي للأمة عبر التاريخ الإسلامي، وبهذا كان عمل النبي وخلفائه الراشدين ومن جاء بعدهم، وواضحٌ أن مقصود هوفمان بالدولة هنا (الخلافة) حينما قال: “يمكن أن ينجح الإسلام دون دولة”. والمهم في هذا هو التنبه لمحاولات الاختراق وتشويه العقيدة الموحِّدة للأمة عن طريق إحياء الشبهات أو الشيطنة لبعض الجماعات من جُهَّال الأمة المسلمة، لئلا يكون هذا مِعْول هدمٍ بأصل مفهوم الاجتماع على العقيدة الواحدة والأمة الواحدة، ولعل هوفمان بهذا يرى أن المركز السياسي في الإسلام ليس بأولية، فقد انتصر الإسلام والمسلمون مراتٍ عديدة دون خلافة.
وهوفمان المتفائل لمستقبل الإسلام والمسلمين بالغرب خاصه يقول: إن أمة الإسلام بقوة دينها المذهل ستكون البديل المأمول في الغرب ذاته بكلماتٍ واضحة وصريحة؛ حيث نجاح مفاهيم الأمة وقِيَمها لدى الجاليات المسلمة في الغرب وما صنعه مفهوم الأمة فيهم، بالرغم من الاختلاف العرقي واللغوي للمواطنين من الجاليات! قائلاً: «ومن النتائج المأمولة لهذه التطورات في الغرب هو اختفاء الجاليات المسلمة المختلفة عربياً ولغوياً هناك في الغرب، أي ظهور أمة عالمية حقاً، ولا منقسمة بين علماء الشريعة ولا بين الانتماءات القبلية، ولا بين الحنين إلى الأوطان الأصلية. فإن حصل ذلك فإن الإسلام سوف يتضاعف تعاونياً. ويمكن أن يُرى الإسلام عندئذ في الغرب بديلاً في عالم تختفي فيه المسيحية تدريجياً». وكأن هوفمان بهذا القول يرى أن الثقافة الغالبة في المجتمعات الغربية سوف تكون مستقبلاً للإسلام بسبب قِيَمِه العالمية الأممية الجذَّابة والآخذة في الظهور فعلياً.
بل إن هوفمان يقارن بتفاضُل بين مميزات الوحدة على أساس الأمة، وبين الوحدة على أساس سياسي حيث الخلافة، كما يُوضِّح بتفاؤل عن مستقبل الإسلام بالغرب في القادم من السنين للسبب ذاته! قائلاً: «الوحدة، أم الخليفة، أم كلاهما؟ ربما يكون التنوع بين المسلمين نعمة، بيد أن وحدتهم –التي تُزوِّدهم بالقوة- تُعدُّ قيمة بحد ذاتها. لذلك يُؤَمَّل أن تتجاوز الجاليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا التشرذم، ويرتبطوا جميعاً بالأمة بطريقة تُقدِّم المسلمين في أنحاء العالم كله كأُخوّة عالمية. والسؤال هنا هل يمكن تحقيق ذلك من دون مركز سياسي؟ وبعبارة أخرى من دون إحياء الخلافة التي أزالها مصطفى كمال في العام 1924م!».
وهوفمان يطرح فكرته أو رؤيته عن الأمة ومعها المقارنة بين الإسلام والمسيحية، وكذلك بالسؤال والاستدلال، لا سيما حينما استدل بالتاريخ زمن ابن تيمية -رحمه الله- الذي تجاوز بالمسلمين بعض الفتن والمحن حينما حدثت فتنة المغول التتار مع عدم وجود خليفة لأمة الإسلام، لكن حضور معظم مفاهيم الأمة المسلمة المُوحِّدة كان عاملاً فاعلاً، فالانتصار يرتبط بالأمة وعلماء دينها أكثر من ارتباطه بالدولة أو الخلافة حسب قول هوفمان هذا، وفيه: «ليس هذا السؤال [عن المسلمين دون مركز سياسي] جديداً؛ ففي عصر ابن تيمية في القرن الثالث عشر الميلادي كان على المسلمين أن يعلموا أن الإسلام يستطيع العيش من دون خليفة مشترك، ولكنه لا يستطيع العيش من دون الأمة. ما زالت وجهة النظر الحصيفة هذه قائمة؛ إذ من غير المحتمل أن يعترف المسلمون بمركز سياسي واحد، ولكنهم يعترفون بانتمائهم لأمة واحدة. يَحْسِد كهنة الكاثوليك وقساوسة البروتستانت المسلمين على شعورهم بالانتماء إلى أمة واحدة؛ إذ إن الوصية المسيحية “أحبوا بعضكم بعضاً” يَتَّبِعها المسلمون أكثر من المسيحيين؛ وذلك لإحساسهم بالأخوة فيما بينهم. هذه هي إذن بعض أهم العوامل التي ربما تشكل مستقبل الإسلام في الشرق والغرب، فيما هو آت من السنين».
- أهمية الأمة وحقائق تاريخية:
إذا كان الدكتور مراد هوفمان قد اكتشف وهو الشخصية الأوروبية أهمية الأمة في الإسلام في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، فإنه يعلم ويُدرك أنها الضمانة الحقيقية للقوة والسيادة الذاتية، بل إنها من وسائل قوة الردع للظلم والعدوان الذي ساد المعمورة كثيراً في ظل النظام العالمي السائد والمُتسيد فيه، وهو الذي عاشه هوفمان بالفعل في حياته (1931-2020م) وكان عاملاً أو موظفاً له وزنه في مؤسسات الغرب وأدواته التي أفادته في معرفة الكثير من الحقائق.
وهوفمان الذي يُفِّرق جيداً بين الأمة والدولة لا يُظَنُّ أنه يجهل عموم ما هو معلوم عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما عمل على ترسيخ مفهوم الأمة الواسع ثم كان الخروج من نطاق مكة الجغرافي، ونطاق قريش القبلي إلى الطائف، بل واستهدف مجتمعات وشعوباً مختلفة اللغة والدين بناءً على أمر ربه، منها الحبشة، وكان كذلك يفعل مع حجاج أصقاع الأرض حيث ما كانوا، وذلك حينما كان يقابلهم ويعرض عليهم دين الإسلام، فهل كل ذلك عند هوفمان هو بحث عن إقامة دولة أو خلافة؟ أم أنه استمرار لعملٍ دائم على بناء أمة واحدة بعقيدة واحدة لا تحدها الحدود الجغرافية؟ ويوم أن تنتصر العقيدة أو ينتصر مفهوم الأمة الواحدة ينتصر الأتباع تباعاً، كما حدث بالمدينة النبوية بعد الهجرة، وهذا ما يحتاج إلى دراسة تحليلية واسعة في أقواله المتناثرة في معظم كُتبه عن موضوع الأمة والدولة.
والتاريخ يقول: كان العهد المكي مرحلة أولى للحياة المحمدية يقوم بأساسه على صناعة الأمة الواحدة بما فيها من عقيدة وتعاون وتراحم وتعاطف ومساواة وعدالة وتسامح بين الأجناس البشرية دون تمييز قبلي أو عنصري، وقد تُوِّجت هذه الأعمال النبوية بميلاد الأمة الواحدة، فانتصار الإسلام قبل انتصار المسلمين هو ما حصل تاريخياً لرسول الله محمد في عهد النبوة المكي، وهو ما يتوافق مع السنن الربانية الكونية، بل إن مما يجب فهمه واستيعابه أن فوز المسلمين -لو حدث قبل انتصار عقيدتهم ودينهم وانتشار أفكاره وقِيَمِه والعمل بها- يُعدُّ كارثة تقود إلى التشويه والهزيمة اللاحقة التي سوف تضر بالإسلام والمسلمين، والتلازم بين الأمرين (الأمة والدولة) بأسبقية الأمة على الدولة وبأولية الإيمان قبل النصر من الله واضح غاية الوضوح في القرآن الكريم كما قال الله تعالى ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد:7]، وكما في قوله تعالى ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47].
ومن الحقائق التاريخية أن محمداً لم يقفز –وحاشاه– إلى تأسيس دولة في مكة مع إمكانية ذلك في شخصيته القيادية؛ لأن ميلاد الأمة بتعاطفها وتراحمها وتعاونها بعقيدة واحدة مُوحِّدة هي الأساس الأول والمتين للرسالة، ثم إن دخول التاريخ السياسي جاء مرحلة ثانية ونتيجة طبيعية للحياة بعد انتصار مفاهيم الأمة، ويُلحظ الفرق بين المرحلتين في سيرة المصطفى .
ومن تجارب العصر الحاضر التي من الممكن الاستئناس بها، أن مفاهيم الديمقراطية تتطلب تثقيفاً سياسياً وتهيئة اجتماعية قبل المناداة والعمل بالدولة الديمقراطية وانتخاباتها، وكما هي هذه الأوليات بحق الديمقراطية فإنها ألزمُ -برأيي- أن تكون بحق اختيار المجتمعات المسلمة لدينها؛ حيث وجوب العمل بمفهوم الأمة قبل الدولة والدولة المركزية.
وعن الأمة: فالتاريخ يؤكد بحق ما قاله القرآن الكريم عن أمة الإسلام بخصائصها الخيرية ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:110]، والمسلمون في معظم تاريخهم كان نجاحهم الكبير في تحقيق الأمة الواحدة أكثر من الدولة الواحدة، كما أرشد القرآن ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور:55]. وهذا الإيمان والعمل الصالح هما أبرز المؤهلات الرئيسة للتمكين والاستخلاف، وهذا مما يُعدُّ أكبر وأهم في اعتقاد كل مسلم يفهم دينه من الاهتمام والعمل على إيجاد الدولة الواحدة أو الخلافة الإسلامية الموحَّدة. علماً أن هوفمان عاش فوز الإسلام وانتصاره، وألَّف عنه أكثر من كتاب، ومنها (الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود) وكتاب (الإسلام كبديل) وغيرهما، ورأى بنفسه انتشار الإسلام وانتصاره القائم عالمياً بالرغم من غياب الاستراتيجيات السياسية لنصرته! بل إن كل التحديات والخطط الاستراتيجية مناوئةً له، وهذا الفوز للإسلام بمفاهيم الأمة الواحدة مما يمنح لدول الإسلام الوطنية الحديثة التحرر من هيمنة الأجنبي وسيادته، وتلك مرحلة أولى للنهوض والبناء الحضاري والمنافسة الدولية.
علماً بأن هذه الرؤية للمفكر هوفمان وهذا التعليق عليها لا يعني التقليل من شأن وجود الدولة الواحدة أو الإمام الواحد حينما تتوفر المعطيات والشروط، كما هي تأصيلات كثير من علماء الإسلام وفقهائه عن الإمامة والخلافة عبر التاريخ. وحول فعل ابن تيمية الذي قام بوظائف الإمامة للمسلمين في ذلك الزمن، فكما يمكن الاستدلال به على أهمية الأمة حيث استشهاد هوفمان، فيمكن كذلك الاستدلال به على أهمية الدولة حينما مارس ابن تيمية سلطاتها، وقد ألَّف عن هذه الأهمية إمام الحرمين أبي المعالي الجُويني (ت 478هـ) –رحمه الله- كتاب (غياث الأمم في التِيَاث الظُّلَم)، فالإمامة والخلافة من مقاصد الشريعة وثمرات الأمة، والمهم في كل هذا أن نشدان الدولة الواحدة للإسلام (الخلافة) لا يكون أهميته مُقدمةٌ على الأمة ومفاهيمها، ولعل هذا هو ما يقصده هوفمان؛ حيث يرى أولية الأمة على الدولة؛ لأن الأمة ومفاهيمها هدفٌ وغاية، والدولة وسيلة لتحقيق مصالح عامة أخرى.
ومن المؤكد أن قُراء عموم التاريخ قرأوا بأن أعظم خلاف لأمة الإسلام هو خلاف الإمامة وما فيها من القهر والغلبة التي في الغالب تؤدي إلى الفتن، كما هو قول أبو الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني المتوفى 548هـ: “ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية، كما سُلّ في موضوع الإمامة”. ويرى بعض علماء الإسلام أن مطلب الدولة الإسلامية المركزية الواحدة أو الخلافة في غالب الأحوال يفتح باب الصراعات، وبالتالي يستنزف القدرات والمقدرات، ويُحرق الكثير من المكتسبات للإسلام والمسلمين في حال تقديم الدولة على العمل بمفاهيم الأمة.
ومع هذا ففي هذا السياق المعرفي عن موضوع الأمة والدولة: « فإن هذا لا يعني أن العلمانية أو النظرة اللادينية لإدارة الدولة يمكن أن تكون حلاً للأزمات، فها هو خليفة المسلمين عمر بن الخطاب -كأنموذج- الذي نشر العدل في أنحاء المعمورة يقول عن الأوليات: (تَفقَّهُوا قَبْلَ أن تُسَوُدُوا)».
- وفي الختام أقول:
إن هذه المفاهيم عن أمة الإسلام ومآلاتها هو ما يُفسِّر تضافر جهود دول الاحتلال والهيمنة والتعصب الغربي لحرب مفهوم الأمة وأدواته، وإحلال المفاهيم الضيقة لأمة العرب ولشعوب الإسلام من الوطنيات والقوميات والدويلات، وكذلك محاولات إحلال مفاهيم العولمة الغربية والإنسانية غير الممكنة بديلاً عن مفاهيم الأمة الإسلامية الممكنة! ولا غرابة في أن تكون الحرب على مؤسسات وجمعيات التراحم والتعاون والتعاطف العالمية الإسلامية؛ حيث وسائل الأمة الواحدة تُعدُّ هدفاً بما يُسمى (حرب الإرهاب)، والقطاع الخيري الإسلامي بمؤسساته المتنوعة ووسائله السلمية الحضارية يُعدُّ العمود الفقري لصناعة كثيرٍ من قِيَم الأمة المسلمة الواحدة.
واستهداف المناهج التعليمية في العالم العربي والإسلامي والكيان الأسري العائلي، وإضعاف الروابط والكيانات الرسمية وغير الرسمية التي تربط بين الشعوب المسلمة داخل في إطار هذه الحرب، وكذلك ما يجري في بعض دول الغرب -مع بداية الألفية الثالثة- من إغلاق عشرات المصليات أو المساجد في فرنسا كأنموذج، وإغلاق العشرات من المدارس الإسلامية في السويد، وكلها تُعدُّ مؤشرات على أفول قيم الحريات والحقوق والديمقراطيات في الغرب، بل سوف تنتهي هذه القيم والشعارات حينما يفوز الإسلام أكثر في المنافسة، ويحل مكان هذه القيم في الغرب ذاته محاكم تفتيش على الإسلام والمسلمين، والله أعلم.
وهذا وذاك لا يخرج عن إطار إضعاف أمة الإسلام الواحدة؛ حيث هذه الأممية للإسلام هي ما يعيها الغرب جيداً ويدرك مآلاتها! بل ويعمل على عدم فاعليتها، والتاريخ لن ينسى السابق واللاحق من أحداثه.
رحم الله مراد هوفمان المفكر الذي كان واعياً ومدركاً لهذه الأهمية الكبيرة للأمة.
د. محمد بن عبدالله السلومي
باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
[email protected]
لا توجد تعليقات