2 محرم 1446هـ
08 يوليو 2024م
تمر جميع الأمم والدول والحضارات بسنن تاريخية وقوانين كونية حول مراحل أجيالها، فمن مرحلة التأسيس والبناء، إلى مرحلة الإنتاج والكفاح بأجيالٍ قويةٍ وربما مُخضرمة بين الصعود والهبوط والقيام والسقوط، ثم يكون الجيل الثالث حيث جيل الاستهلاك لما ورثوه والرفاهية بما حصلوا عليه من نعيم الحياة التي لم يتعبوا فيها.
وقد كتب عن هذا عالم الاجتماع والتاريخ عبدالرحمن بن خلدون في مقدمة تاريخه الموسوعية، ومما قال: «إنّ عمر الدول لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال؛ لأنّ الجيل الأوّل لم يزالوا على خُلق البداوة وخشونتها وتوحّشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد… والجيل الثّاني تحوّل حالهم بالملك والتّرفّه من البداوة إلى الحضارة، ومن الشّظف إلى التّرف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به وكسل الباقين عن السّعي فيه… وأمّا الجيل الثّالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العزّ والعصبيّة بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم التّرف غايته بما تبنّقوه [توصلوا إليه وتقلبوا فيه] من النّعيم وغضارة العيش، فيصيرون عيالاً على الدّولة ومن جملة النّساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم» [تاريخ ابن خلدون، 1/214].
والمتأمل في قراءة التاريخ القديم والمعاصر يُدرك هذا مع أقوى الإمبراطوريات والدول وأضعفها، ويُدرك أن المعالجة والنهوض بجيل الضعف والاستهلاك والرفاهية صعب وعسير، لكنه ممكنٌ في تأخير المعضلة والمشكلة؛ حيث أجيال التأسيس أجيال قسوة وخشونة وتضحيات، كما أن أجيال ما بعدهم في الغالب يجمعون بين عنصري (العمل الإنتاجي) و(الترف الاستهلاكي) ربما بتوازنٍ يحفظ بقاء الدول والمجتمعات، لكن معضلة الأمم والدول والمجتمعات تكاد تنحصر في الجيل الثالث الذي ورث الكثير من الموروثات دون مشقةٍ أو متاعب، واستمتع بثمرات ومخرجات عصور التأسيس والإنتاج دون عناءٍ أو مسؤولية لدرجة أصابت هويته وانتماءه.
وقد لاحظ البعض من المهتمين هذه المعضلة وعَبَّرُوا عنها بما يسمى بالهشاشة النفسية التي تتلازم مع عصور الوفرة والاستهلاك بصورةٍ خاصة. وقد ورد عن تعريف الهشاشة النفسية -كأي مصطلح- عدة تعريفاتٍ ومفاهيمَ متنوعةٍ وربما مختلفةٍ فيما بينها. ومما كُتب من التعريفات عنها ما ورد في كتاب (الهشاشة النفسية: لماذا صرنا أضعف وأكثر عرضة للكسر؟) لمؤلفه إسماعيل عرفة، وفيه ورد أنه عبارةٌ عن حالة شعورية تعتري الإنسان عند وقوعه في مشكلة ما، وتجعله يؤمن بأن مشكلته أكبر من قدرته على التحمل! فيشعر بالعجز والانهيار عند وقوع المشكلة التي لا تساوي حجمها في الحقيقة، لكن هذه الهشاشة تزيد من الألم وتتعاظم فيها المعاناة الفردية والأسرية؛ حيث الشعور بالتحطم الروحي والإنهاك النفسي، والإحساس بالضياع مع فقدان القدرة على المقاومة لأي حدث، وبالتالي يكون الاستسلام للألم وتنهار الحياة كلها للمعني بسبب هذه المشكلة، بل يكون الهروب عن كل ما يؤذي المشاعر ولو بكلمة يسيرة!! [تعريف كتاب إسماعيل عرفة، الهشاشة النفسية: لماذا صرنا أضعف وأكثر عرضة للكسر؟].
ومن مظاهر الهشاشة لدى الأجيال الحديثة ما يُرى من الحزن الذي يظهر عند رفض الآباء شراء بعض أجهزة التقنيّة الباهظة لأبنائهم على سبيل المثال، ومن ذلك حزن الفتاة وربما اكتئابها عند رفض الخروج مع صديقاتها، وكذلك الشّعور بالظلم المُبالَغِ فيه من قِبَلِ الطلاب من معلميهم أو من مدير المدرسة في عمليات الإصلاح لهم والتوجيه والتأديب وأنه تنمُّر وتعقيد نفسي عند بعض أولياء أمور الطلاب والطالبات!!
كما أن من مظاهر هذه الهشاشة ردود الفعل النفسية لدى بعض الشّباب عند عدم حصوله على فرصة عملٍ رغم ضعف مؤهلاته العلميّة، أو طلبه الثراء السريع دون تحملٍ للمتاعب أو تجاوزٍ للتحديات في حياته الزوجية أو الأسرية أو التجارية؛ نظراً لأن الآباء والأمهات مع قِيَم الاستهلاك والوفرة يفكرون ويعملون ويخططون ويمارسون نيابةً عن أولادهم في معظم شؤونهم.
ومن مظاهر هذه الهشاشة أيضا كراهية النقد وعدم تحمله، وبالتالي الهروب من العمل والإنتاج مظنة الخوف من الإخفاق والنقد، وبالتالي اللجوء إلى الأطباء النفسيين -الذين تضاعفت أعدادهم عالمياً- عند كل شعور سلبي في الحياة طلبًا للعلاج. وفي الغالب يكون عند كثيرٍ من المجتمعات الهروب من الواقع واللجوء للمخدرات بجميع أنواعها.
فهؤلاء المصابون بهذه الهشاشة الحديثة لا يتحمَّلون المسؤوليات أو ضُّغوطات الحياة؛ مما يجعلهم أطفالًا لكن بأجسادٍ وأعمارٍ كبيرة. وهم بهذا يعتمدون كل الاعتماد على والديهم أو ذويهم في المعيشة اليوميّة، والصرف من موارد والديهم باهتمام بالغ في الموضات والكماليات ووسائل الترفيه؛ لدرجةٍ أعاقت وأَخْرت النضج العقلي والنفسي والاجتماعي للأجيال، بل في حالات معينة انتقلت هذه الهشاشة إلى الوالدين متأثرين بأولادهم!
ومن ظواهر هذه الهشاشة النفسية الخطيرة على مجتمعات العالم بأجمعه، ما يُهدد بضعف النمو السكاني وتنامي الأجيال كما هو في الغرب، وقد أشار إلى شيءٍ من هذا بعض علماء الاجتماع، ومنهم باتريك بوكانن Patrick Buchananحول ضعف الديموغرافيا السكانية في الغرب وذلك في كتابه (موت الغرب The Death of the West)، كما أن ممن أطلق صيحات الخطر حول القيم جيمي كارتر Jimmy Carter في كتابه (قيمنا المعرضة للخطر Our Endangered Values).
- أنموذج أمريكي:
تُعدُّ أمريكا أنموذجاً لأقوى الدول المعاصرة سياسياً وعسكرياً وتقنياً، لكنها تعيش تحولات حالية ومستقبلية خطِرة، وقد أدرك كثيرٌ من عقلائها ومفكريها خطورة التحولات لدى الشباب من الجنسين منذ الثمانينيات من القرن الماضي؛ حيث أصبح التحول من أمريكا المعيارية (القيم الأمريكية المحافظة والإنتاجية) إلى أمريكا الحديثة (جيل الاستهلاك والمثلية الجنسية والتغيير الاجتماعي الكبير) لدرجة إطلاق الصيحات والبرامج والنداءات التي تدعو إلى صياغة أي منظومةٍ من القِيَم تُربي الجيل الحالي على العمل والإنتاج والمسؤولية وعدم المراهقة والإسراف في الرفاهية والاستهلاك.
وممن أدرك هذا في الثمانينيات من القرن الماضي ستيف كارتيسانو Steve Cartisano – ضابط القوات الخاصة السابق في الجيش- مؤسس (مؤسسة تشالنجر The Challenger Foundation) في عام 1988م، حينما عمل على الاستثمار الاقتصادي في جيل المراهقين من أولاد الأثرياء، الذين أصبحوا عالةً على والديهم بهشاشتهم النفسية ومراهقتهم السلوكية المشينة؛ حيث الترف والرفاهية والاستهلاك، وعدم الشعور بالمسؤولية، وعدم وجود قِيَم ضابطة لهذا الجيل، وهو ما دعا مؤسس تشالنجر من خلال برنامجه (العلاج في البرية the wilderness therapy) إلى إقامة معسكر علاجي للمراهقين المضطربين، وذلك بعد الترتيب مع الغيورين على أولادهم، لتربيتهم على القسوة والجدية في الصحراء لمدة 63 يوما في صحراء ولاية يوتا جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يتم اختطاف الأولاد من بيوت أُسرهم بتنسيقٍ كامل مع والديهم، ليبدأ البرنامج الجاد والقاسي لهم، والقيام بالأنشطة المنهكة والرعاية الصارمة من أجل إعادة تأهيلهم إلى الحياة الجادة، بعيداً عن مرافق المدنية ومطاعم الرفاهية وأسواق الاستهلاك فيها، ويتم بهذا انتزاعهم من محيط الرفاهية إلى قسوة الجغرافيا والطبيعة. وكذلك كان الأمر في برنامجه الآخر القاسي في التربية على الجدية (أكاديمية ساحل المحيط الهادي PACIFIC COAST ACADEMY).
أحد مديري البرنامج لانس جاغر يردد بفخرٍ القول: «لقد كسرنا عنادهم كي نتخلّص من حماقاتهم القديمة، ولنعيد بناء شخصياتهم، هذا أفضل من ذهابهم إلى السجن» [الجزيرة الوثائقية: مخيم الجحيم مراهقون مرفّهون يخوضون صراع البقاء في الصحراء الأمريكية].
وبغض النظر عن البرنامج وأصدائه الإيجابية أو السلبية والنقاشات والحوارات الجدلية المعتادة في المجتمع الأمريكي، لا سيما عن قسوة البرنامج وضحاياه، والجانب الرأسمالي في استهداف أبناء الأثرياء كما هي حالة باريس هيلتون حفيدة ووريثة مؤسس سلسلة فنادق هيلتون، وهي الجوانب التي وضحها الفيلم الأمريكي الوثائقي بعنوان: (مخيم الجحيم: كابوس المراهقين Hell Camp: Teen Nightmare) إلا أن الفكرة والبرنامج يعكسان مدى وجود ظاهرة الهشاشة النفسية في المجتمع الاستهلاكي الأمريكي، ومدى الشعور بالمخاطر من قِبل الأسرة الأمريكية والمجتمع والدولة مهما كانت قوتها، وهي ظاهرة يعيشها الغرب ويُدرك مخاطرها كثيرٌ من الآباء والأمهات والأُسر الذين يتنازلون كتابياً عن حقوقهم في أولادهم للبرنامج، حينما أصبحت هذه الهشاشة النفسية كابوساً قاتلاً فاقمَ من آثاره واقع الحياة الاستهلاكية والرفاهية لدى أجيال أمريكا الحديثة.
وما حدث من تَنبهٍ وانتباه بأمريكا تجاه أجيال الرفاهية لديها حدث ما يُماثله في بعض الدول الأوروبية وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، كما فعلته الصين تجاه أجيال الرفاهية والمراهقين المدمنين على الشاشات والهواتف الذكية وألعاب الأطفال؛ لمعالجة هذا التنمر الرقمي لدى أجيالهم، وذلك بمدارس داخلية جادة لشفاء الأطفال برسوم باهظة [يورونيوز، هكذا تعيد الصين في مدرسة داخلية تأهيل المراهقين المدمنين على الشاشات].
- مؤشر المسؤولية!
تتميز الأمم الحية والثقافات الجادة والمجتمعات المنتِجة بدعم الدراسات النقدية لتشخيص واقعها وأمراضها الاجتماعية بغرض الإصلاح والتصحيح لأحوال أجيالها، ومما لفت نظري في هذا السياق كثرة الشكاوى الأُسرية من الهشاشة النفسية التي تزداد بين الأجيال؛ حيث ظاهرة عدم تحمل أي مسؤولية لدى الأجيال الجديدة في ظل الوفرة والاستهلاك، وهو ما تناقشه أحياناً بعض صحفنا الوطنية.
ومن ذلك -كأنموذج- ما ورد حول (العزوف عن الزواج) في المجتمع السعودي، ويتضح هذا العزوف من خلال أسبابه حسب نتائج -الهيئة العامة للإحصاء- عام 2020م والتي هي: (ارتفـاع تكاليـف المعيشـة، ثمَّ ارتفاع تكاليف الزواج، يليها الرغبة في الانتهاء من الدراسة أولًا، وصعوبة إيجاد الشريك المناسب خاصة بالنسبة للإناث، وبشكل متفاوت عدم وجود رغبة في تحمل المسؤولية، ثم عدم وجود رغبة في الزواج حاليًا، وصعوبة إيجاد مسـكن مناسـب) [تقرير الهيئة العامة للإحصاء بتاريخ 2020م، الشباب السعودي بالأرقام]، ومعظم هذه الأسباب يرجع بشكل مباشر أو غير مباشر إلى (عدم الرغبة في تحمل المسؤولية)؛ حيث يكون تجاوز هذه التحديات والعوائق بالصلابة النفسية والإرادة القوية كما هي لدى المجتمعات الفقيرة.
وتُعلق إحدى النشرات الإخبارية حول هذا بالقول: عند استبعاد فئة عمرية لا يمكن لها الزواج لأسباب تتعلق بإكمال الدراسة مثلًا، أو تحديات البحث عن عملٍ فور التخرج؛ حيث العزوف ظَهرَ عند الشاب السعودي بين عمر 25 سنة و 34 سنة، لتكون نتيجة الإحصاء عن نسبة الشباب الذين يمكن وصفهم بـرب أسرة، بالنسبة لفئتهم لا تبلغ سوى 14% وذلك في عام 2022م [صباح الخير – نشرة الراجحي الإنسانية]!
فالنسب المئوية والأسباب هنا تُعدُّ جميعاً من مؤشرات الهشاشة الخطِرة على الأجيال، وتُعدُّ لغة الإحصاء لغة معبِّرة عن التشخيص للمشكلات ومعالجتها بصورةٍ حضارية، كما هي أدوار جهات الدراسات والإحصاء، والجهود العلاجية من قِبَل الجمعيات المعنية بالزواج والأسرة.
والزواج ومسؤوليته من المؤشرات المهمة في الصلابة النفسية للأجيال، إضافةً إلى كونه يُعدُّ اللبنة الأساسية للأسرة والمجتمع، وهو القوة الأساس للمجتمعات والبقاء للدول.
- من صور المعالجة:
وُجدت كتب كثيرة تُشخِّص هذه الظاهرة المرضية الخطِرة، وفي المقابل ما يطرح أهمية الصلابة النفسية، ومن ذلك كتاب (كيمياء الهشاشة النفسية) وكتاب (الصلابة النفسية وعلاج الهشاشة النفسية)، وكتاب (الصلابة النفسية في ظل التربية الإسلامية دراسة تأصيلية).
وهناك وسائل كثيرة تلجأ إليها بعض الدول للوقاية والعلاج من هذه الظاهرة الخطِرة على النماء والبقاء وعلى الهويات للدول والمجتمعات، ومن هذه الوسائل (التجنيد العسكري الإجباري) و(برامج الكشافة) و(التطوع الميداني الجاد المبرمج)؛ حيث تعويد الأجيال على المسؤولية وحب العمل والإنتاج والتعاون والمبادرة وروح الانتماء، ومن ذلك بعض برامج التعليم الجادة في البناء العلمي والفكري والنفسي لطلابها، كما هو حال بعض المدارس الداخلية المُسمَّاة (Boarding school) وفيها إبعادهم عن عواطف أسرهم وحنانهم السلبي تجاه أولادهم، لتعويدهم على المسؤولية الذاتية.
إن الأجيال هم التنمية البشرية المستقبلية، وبهم تكون التنمية الشاملة، ولهذا فإن هذه الظاهرة تستحق أن تتشارك في معالجتها وزارات وجهات متعددة ابتداءً من دراسة ظاهرة الهشاشة النفسية والتربوية والتعليمية وحجمها ووسائل معالجتها بقوةٍ وحزم، وانتهاء بصناعة برامج ومشاريع من قِبل المعنيين على الصعيد الرسمي إضافةً إلى جهود الجهات غير الربحية، ولا شك أن وزارة التعليم تبقى عليها المسؤولية الكبرى في معالجة الظاهرة، وكما قيل: الوقاية خير من العلاج.
د. محمد بن عبدالله السلومي
باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
[email protected]
لا توجد تعليقات